مفاوضات غزة متعثرة، ولا يبدو أن الفرصة متاحة لإقناع نتنياهو بالعودة الى التسوية التي أعلنها الرئيس الأميركي جو بايدن والتي وافقت عليها حركة حماس في الثاني من الشهر المنصرم. يصرُّ العدو الإسرائيلي على المضي في اختبار مدى نجاح الضغط العسكري في إطلاق الرهائن بالرغم من الإعلان الأميركي المتكرّر عن قرب التوصل الى اتّفاق يفضي الى إنهاء الصراع. وفي هذا السياق يدأب الوفد الإسرائيلي المفاوض على إضافة المزيد من التعقيدات والشروط التي تتعارض ليس فقط مع إعلان بايدن بل مع الإتفاقات السابقة مع مصر والسلطة الفلسطينية، لا سيما ما يتعلق منها بإدارة معبر رفح وممر فيلادلفيا، هذا بالإضافة الى التمسك بفرض تدابير رقابية على عودة الفلسطنيين الى شمال القطاع.
وإلى المشهد الملتبس والمجهول الأفق في غزة يضاف المشهد في جنوب لبنان المتأرجح بين التفاوض غير المباشر مع العدو الإسرائيلي على وقع الوساطتين الأميركية والفرنسية من جهة، ومحاولة الإلتحاق بالمشهدية الإقليمية في غزة من جهة أخرى. يبدأ الإلتباس المحيط بالوضع على حدود الجنوب اللبناني ــــ التي اصطلح على تسميّتها الجبهة الشمالية ـــــــ بالإزدواجية في توصيف الدور الذي تؤديه، ففيما يصرُّ حزب الله ــــ ومن خلفه طهران ـــــــ على توصيف معركته بـ «مساندة غزة» وعلى ربط وقف إطلاق النار بتوقف العمليات في القطاع، بما يعني أن التفاوض حول هذه المهمة المستحدثة للحزب هو جزء من التفاوض الإقليمي/الأميركي المتنقل بين الدوحة والقاهرة والذي تطمح طهران للإنضمام إليه ، يصرُّ الوسيطين الأميركي والفرنسي أن معالجة الوضع على الجبهة الشمالية يمر عبر تطبيق القرار 1701، بمعنى أن عضوية طهران على طاولة التفاوض مرفوضة، وهذا هو لب المأزق الإيراني.
تتجاوز تداعيات المشهدين المتعثرين في غزة والجنوب اللبناني حدود القطاع ولبنان، بل تلقيان بثقلهما على المنطقة برمّتها بما أفقدها حيويتها وأدخلها في مرحلة من الجمود السياسي القسري. لقد تمددت الترددات السلبية للتفاوض في قطر والقاهرة لتشمل كل العواصم العربية، هذا وقد أضاف الإنتشار العسكري المكثّف وغير المسبوق المزيد من الترقب والتقييد على كل الحيوية التي اكتسبتها المنطقة على خلفية الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة العالمية والتقارب الصيني الخليجي. ولكن هل يشكّل كل ذلك مبرراً كافياً للوهن الذي تعانيه المنطقة والذي تظهر مؤشراته في عدم القدرة على الخروج من الدائرة المغلقة التي فرضتها الحرب في غزة والمفاوضات المتعثرة بعدها؟
لا بد من النظر بواقعية الى الظروف الموضوعية المحيطة بالمفاوضات الحالية في غزة، وأولها طبيعة الحرب التي انطلقت مع طوفان الأقصى والعناوين والأهداف التي رفعتها كل من إسرائيل وحركة حماس، وما استتبع ذلك من حضور عسكري دولي في المنطقة، مما رفع المواجهة الى مستويات تفوق القدرة العربية على احتواءها. أما المفارقة الأخرى والتي تشكل مأزقاً حقيقياً، فهي وليدة التناقض بين حقوق الشعب الفلسطيني التي تدافع عنها كل من مصر ودولة قطر ومنها عودة السلطة الفلسطينية الى القطاع من جهة، وبين حركة حماس التي تتصدّر المشهد والذي تُجمع كل من مصر وقطر وعدد كبير من الدول العربية على اعتبارها أحد الأذرع المرتبطة بطهران التي سيطرت على القطاع بقوة السلاح وأقصت السلطة الشرعية بدفع من طهران.
هذا الوهن العربي الذي تسبّبت به الحرب في غزة ومفاوضاتها المتعثرة يتكرر في لبنان بحيث يصبح أقصى ما يمكن أن تبلغه الدبلوماسية العربية هو السعي لوقف إطلاق النار دون المطالبة بأي سقف سياسي. تدرك الدول العربية أنّ الإستقلال الدستوري للدولة في لبنان أضحى مقيداً وكأنه يحاول دائماً التطبيع مع الهيكلية الدستورية للخارج، كما أضحت الأولويات السياسية المستوردة توازي الدور الذي ترتهن له وتمارسه النخب اللبنانية في الدولة. من جهة أخرى تدرك الحكومة اللبنانية التي أقصيت عن دورها في الدفاع عن لبنان كما يدرك اللبنانيون استحالة تأييد الدول العربية للدور الذي يفرضه حزب الله على الحكومة اللبنانية والمنطقة. هذا ما يتناقض مع الموقف العربي من كل الميليشيات المرتبطة بطهران، وهذا ما عبّر عنه أكثر من مرة ممثلو كل من مصر والمملكة العربية السعودية وقطر خلال مساعي اللجنة الخماسية أو التي عبّر الامين العام لجامعة الدول العربية أكثر من مرة.
فهل تحقق اللبنانيون بما لا يقبل الشك من تبعات تحطيم المؤسسات الوطنية وإفراغها من جوهرها وإقامة بنى بديلة تتولى نقل وتطبيق القرارات الصادرة في الخارج، وما أثاره ذلك من تناقضات داخلية وخارجية؟ وأمام كل ذلك ألا تقضي الواقعية السياسية بالتراجع خطوة الى الوراء ومحاولة إعادة الحياة الى بعض المفاهيم ذات الصلة بالدولة والمؤسسات ــــ بعد أن أسقطها اللبنانيون ــــــ من أجل مواجهة المخاطر المحدقة والدفاع عن لبنان؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات