IMLebanon

ميناء غزة في اليوم التالي: “للانتعاش” أم “للترانسفير” أم بديل لموانئ أخرى؟

 

فتحت التحضيرات الاميركية لبناء ميناء في غزة شهيّة أصحاب السيناريوهات المنطقية وغير المنطقية، خصوصاً تلك التي تُحاكي الخطوة من خلفيات عدة منها ما هو جاهز للتخوين على خلفية البحث عن مؤامرة، في مواجهة من يَجهد للبحث عن دوره في اليوم «التالي للحرب» إن بقي قائماً، سواء لإنعاش القطاع او ترحيل أهله، او ليكون بديلاً من موانىء تخرجها حرب كبرى عن الخدمة. وعليه، ما هي أبرز هذه النظريات؟

لم تكن الفكرة بِنت ساعتها عندما كشف البيت الأبيض في 11 آذار الجاري عن التوجيه الذي أعطاه الرئيس جو بايدن الى وزارة الدفاع «البنتاغون» للبدء في إنشاء «ميناء مؤقت» على ساحل قطاع غزة لإيصال المساعدات إلى أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين في القطاع، ليتبيّن انّ واشنطن نسّقت الخطوة مسبقاً مع الإتحاد الأوروبي بعدما بدأ بعض دوله ينتقد الاجراءات الاسرائيلية الهادفة الى تقليص حجم المساعدات التي تصل برّاً الى القطاع، خصوصاً تلك التي تستجيب لنداءات المنظمات الاممية والدولية التي تتحدث عن «كارثة انسانية» غير مسبوقة ولا بد من مواجهتها ان مضت إسرائيل في إجراءاتها العقابية في حق المدنيين.

 

عند هذه الملاحظة التي لا بد منها انطلقت الاستعدادات في الأيام القليلة الماضية لبناء الرصيف بوصول «سفينة الدعم اللوجستي» التابعة للبحرية الاميركية، التي باشرت إنشاء القواعد الاساسية لبناء الجسر العائم بحجمٍ يسمح باستقبال سفن ضخمة تحمل مئات الآلاف من الاطنان كمساعدات متنوعة في منطقة باتت تحت سيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ ان سيطرت على شاطئ القطاع قبَيل نهاية العام الماضي وعلى مسافة محدودة من ميناء المدينة المخصّص للصيادين. وهي مهمة قدّر لها أن تكون منجزة في خلال ستين يوماً على الأكثر.

 

وتزامناً مع مجموعة الاوصاف التي أغدقت على الخطوة والمواقف التي رافقت الاعلان عنها، بما حملته من اسئلة أقرّت معظمها على أنها دليل واضح الى عجز الولايات المتحدة الاميركية والمجتمع الدولي عن إقناع اسرائيل برفع نسبة المساعدات وانّ الحرب التي يشهدها القطاع طويلة الى درجة اعتبرت فيها انّ المعابر البرية الثلاثة المعتمدة لتوفير المساعدات ليست كافية لتوفير حاجات المواطنين، ولا قدمت عمليات الانزال الجوي الاجوبة الكافية عن حاجة القطاع الى كل ما يسد رمق الذين فقدوا مقومات الحياة وغذائهم اليومي. خصوصاً انّ بعضاً منها قد سقط في البحر واتجهت اخرى بسبب الريح الى مناطق اسرائيلية في غلاف القطاع، عدا عمّا تسبّبت به بعض المساعدات من ضحايا عندما سقط بعضها على تجمعات شعبية كانت تنتظرها في اكثر من منطقة، فكانت لها ردات فعل سلبية تجاوزت ما تركته اعتداءات اسرائيلية مباشرة بالنار أدّت الى سقوط مزيد من «شهداء الرغيف» كما وصفت بعض الحوادث التي وقعت في مناطق كانت قريبة من نقاط الاحتلال.

 

وفي الوقت الذي تترقب الأوساط الدولية تبيان ما يمكن ان تؤدي اليه الخطوة الاميركية ونتائجها العملية، تعددت السيناريوهات التي تحاكي مستقبل الخطوة وما يمكن ان تؤدي اليه في حال التوصّل الى هدنة «اليوم التالي»، فاختلطت تلك التي تؤكد وجود «مؤامرة ما» لم تتضح معالمها كاملة بعد، مع تلك التي تم النظر إليها «بعيون إنسانية» تعبّر عن محاولة اميركية للتجاوب مع الرأي العام الاميركي المتبدل تجاه ما يُرتكب من مجازر، والتعويض عما قدمته واشنطن من دعم عسكري ومالي لإسرائيل للإمعان في قتل الغزيّين. وهو ما أحدثَ معادلة بسيطة أنتجتها المواقف الاميركية وهي تقول: «الصواريخ لتل ابيب والغذاء لضحاياها».

 

والى هذه الملاحظات السريعة التي تحاكي ما يجري بنظرة قد تكون سطحية، تعمقت المصادر الديبلوماسية والسياسية في طرح كثير من السيناريوهات التي تحاكي الخطوة في حال التوصل الى هدنة «اليوم التالي»، لتسأل عن الاهداف البعيدة المدى لمثل هذه المنشأة الكبيرة التي ستشكل جسرا بحريا للقوات الاميركية في منطقةٍ لم يتّضح بعد كيف سيكون شكل الحكم فيها وأدوار المشاركين في الحرب من اسرائيليين وفلسطينيين، إضافة الى ما ستكون عليه الادارة المقبلة لقطاع غزة سواء أعطيت للسلطة الفلسطينية او أبقت الاحتلال فيها في ظل المشاريع الاسرائيلية التي تحدثت عن مراحل من الحكم العسكري والمدني قد يمتد الى عشر سنوات، ما لن ينجح الوسطاء في تبديل الموقف وانهاء الاحتلال وتركيب السلطة الجديدة التي ستحكم المنطقة.

 

وعلى هامش هذا النقاش المتعدد الاسباب والوجوه، قالت نظريات اخرى انّ ما يجري بناؤه قد يكون من القواعد اللوجستية التي تحتاجها السلطة الجديدة التي تدير القطاع لانعاشه اقتصاديا واجتماعيا بعد الحرب، او ان تكون في تصرّف «قوة عربية ودولية مؤقتة» ستحل مكان قوات الاحتلال، اذا تم إحياء الأفكار التي طرحت في بداية الحرب وتراجع البحث عنها بين مؤتمر وآخر وبين مشروع حل وآخر في انتظار الصيغة النهائية التي لم تولَد بعد من رحم المشاريع المتعثرة حتى اللحظة.

 

لكنّ نظرية أخرى قالت انّ عشرات هذه السفن التي تنقل المساعدات يمكن ان تتحول في لحظة ما أولى القواعد المُعتمَدة للترانسفير الفلسطيني في اتجاه اي دول اخرى اذا انخرط المجتمع الدولي في الاجندة الاسرائيلية. وقد تشكل مجموعات وخلايا سرية تسعى الى اكتساب «صفات انسانية» لتنظيم عمليات «الهجرة غير الشرعية»، تبدأ مثلاً بنقل الجرحى وعائلاتهم بحجّة لم «الشمل العائلي»، لتؤدي في النتيجة الى ترحيل ما يمكن إبعاده «طوعاً» أو بطريقة «منظمة» في عمليات الإبعاد، في ظل الظروف المأسوية التي يعيشها المدنيون. فالتقارير التي تسرّبت قبل أشهر عدة، وتزامَنت مع العمليات العسكرية التدميرية، لم تغب عن أذهان البعض. وهي كانت تُنبىء بمساع لنقل النازحين من وسط القطاع وشماله الى بلدان اخرى في افريقيا والعالم، وهي التي عززت هذه المخاوف مما يدبّر لمستقبل القطاع وسكانه.

 

وأبعد من هذه المشاريع التي لا يمكن اعتمادها من اليوم، في انتظار ما تحتاجه من وقت للتثبت من القدرة على تنفيذها. لا يمكن تجاهل بعض الحقائق ومنها تلك التي تحول دون مثل هذه الهجرة في اتجاه دول المتوسط التي تشكو من النزوح السوري قبل حرب غزة وبعدها. لكن ثمة من يعتقد ان هذا الميناء أرسى القواعد الاساسية لمنشآت لا بد منها استعدادا لأعمال التنقيب عن الثروة النفطية في بحر القطاع، والتي أبقتها الإتفاقيات السابقة ملكاً لأبنائه. وهذا كله لا يُقاس بما يتوقعه البعض، خصوصاً من اوساط «محور الممانعة»، من ان يكون هذا الميناء «الاميركي ـ الإسرائيلي» بديلاً من ميناءَي حيفا وأشدود إذا اشتعلت الحرب الكبرى في المنطقة، وخصوصا مع «حزب الله»، وقد أدّت صواريخه الى تعطيل العمل في الموانئ الإسرائيلية البحرية والجوية.

 

عند هذه الخيارات والسيناريوهات التي يمكن الأخذ ببعضها ووضع اخرى في دائرة الأوهام التي يتم تسويقها في إطار الحرب النفسية المتبادلة بين أطراف النزاع، لا بد للمراقبين من انتظار ما يمكن ان تقود إليه هذه الإجراءات وطريقة استخدام المنشآت الجديدة ليسقط البعض منها بلا استغراب وان تنشأ ظروف اخرى تُبدّل وجهات النظر هذه وتضعها في دائرتي الترقب والتحليل المحتمل.