IMLebanon

واحسرة على أمَّة مزَّقتها الفرقة وتكالب عليها الخصوم والأعداء

 

لا يجد الكثير من العناء أي متابع لما يدور في قطاع غزَّة ليكتشف سريعاً أن ما يتعرَّض له الفلسطينيون فيه ما هو إلَّا مؤامرةٌ صهيو – غربيَّة مدبَّرة، تُترجمُ عمليًّا وفق سيناريو جهنمي معدٌّ مُسبقاً، وينطوي على إبادة جماعيَّة وحملةٍ تهجيريَّة نتيجة القتل المتعمِّد للأبرياء باستهداف الأماكن التي يلجأون إليها: من دور عبادة ومدارس ومستشفيات كما باعتماد سياسة الأرض المحروقة بتدمير ممنهج للأماكن السكنيَّة المأهولة، والبنى التحتيَّة بما تشمله من مرافق حيويَّة صحيَّة، تربويَّة، ومحطات الطاقة والمياه الخ… ودفعهم بالعُجَّز والنساء والأطفال للخروج عراة حفاة من منازلهم في شمال ووسط قطاع غزَّة إلى جنوبه تمهيداً لطردهم منه بالكامل.

يأخذ جيش الإحتلال الإسرائيلي على عاتقه هذه المهمة القذرة، مدعوماً بوحداتٍ استخباريَّة وقتاليَّةٍ غربيَّةٍ متخصِّصة من جيوش دول غربيَّة نافذة، مستسهلاً ارتكاب أبشع صور جرائم الحرب، والجرائم ضدَّ الإنسانيَّة، وبمباركةٍ القادة الغربيين الذين أفصح عدد منهم ومنذ الأيام الأولى لاندلاع شرارة الحرب عن انحيازهم إلى جانب الكيان الإسرائيلي الغاصب، وسارعوا إلى إرسال أساطيلهم التي تُقل أفضل الوحدات العسكريَّة تدريباً، وأحدث الأسلحة تقنيًّا، وأكثر الذخائر فتكاً، ولم يُخفوا مشاعرهم المتعاطفة مع الصَّهاينة وكراهيتهم للشعب الفلسطيني بخاصَّة وللشعوب العَربيَّة عامَّةً، وإن حاول بعضهم لاحقاً تلطيف حدَّةِ مواقفه وخطاباته بعبارات منمقة ذرًّا للرماد في العيون، ولاستيعاب موجات الإحتجاج العارمة التي غصَّت بها ساحات وشوارع دولهم استنكاراً لمواقفهم المتسرِّعةِ والمتطرفة المخزية وغير المُشرِّفة وانحيازهم الأعمى لمجرمين قتلة.

 

منذ اليوم الأول للحرب بدا قطاع غزَّة برمَّته، وفق ما تناقله الفضائيَّاتُ من مشاهد «رغم التعتيم الإعلامي واستهداف الصحفيين وعائلاتهم»، أشبه بمحيط بركان هائج، سماؤه تغصّ بالحِمم المُتساقطة، وألسنة اللهب تتصاعد من كل أحيائه، والدُّخان الملوث بالغازات السَّامة الفسفوريَّة يغطي أرضه برمّتها؛ وظهر مدى تعطّش إسرائيل والدول الغربيَّة الداعمة لها لسفك الدِّماء والدَّمار، وكانت مواقف الغرب واضحة في هذا الإطار.

أول بوادر المؤامرة الغربيَّة كانت على لسان وزير الخارجيَّة الأميركي أنطوني بلنكن الذي أصرَّ منذ البدء على إظهار أن انتماءه اليهودي يتغلب على هويَّته الأميركيَّة، وأخذَ يروِّجُ لعملية تهجير سكان غزَّة إلى مصر «صحراء سيناء» والأردن، أما الرئيس الأميركي بايدن، والذي كان قد سبقه منذ عقود في تأييده لقيام الكيان الإسرائيلي باعتباره حاجة ملحَّة للغرب، متمنيًّا لو كان صهيونيًّا، حيث تظاهر أنه مذهول بما رواه له النتنياهو «افتراءً» عن ذبح للأطفال والنِّساء على يد كتائب القسَّام، معلناً عن تأييده الساسي ودعمه العسكري واللوجستي والمالي لإسرائيل، وأوعز بإقامة جسر جوي وآخر بحري لمدها بما يلزم من أسلحة وذخائر وأمور لوجستيَّة لسحق قطاع غزَّة بمن وما فيه، ملقياً اللوم على الفلسطينيين لدفاعهم عن أرضهم، وآخذاً عليهم عدم توخيهم الدِّقة الكافيةَ في إحصاء قتلاهم وجرحاهم الذين قاربون عشرين ألفاً والمنازل التي هدِّمت وتهدَّم على رؤوس قاطنيها وهي بمئات الآلاف، ومبرِّراً استهداف المدنيين ودور العبادة والمستشفيات والمدارس التي أوى إليها الأبرياء العزَّل بمقولة «من حق إسرائيل الدِّفاع عن نفسها، متغافلاً تاريخها الإستعماري – الإستيطاني وتماديها في إذلال الشعب الفلسطيني وتدنيسها المتكرر لمقدساته، محاولاً تضليل الرأي العام بزعمه أن تدمير بعضٍ من المستشفيات التي قصفتها إسرائيل كان بصواريخ أطلقها مقاتلو حماس، وأغربُ ذرائعه تمثَّلت في زعمه أنه لم يعثر على دليل يؤكِّد أن إسرائيل تستهدف المدنيين بالأسلحة والذخائر الفتاكة، ونفيه الدائم لارتكابها جرائم حرب رغم الانتهاكات الواضحةِ لقوانين الحروب وآداب القتال.

 

واستكملت بموقف الرئيس الفرنسي المتماهي مع الموقف الأميركي والمكمل له، وإن يكن الموقف الأكثر استهجاناً هو موقف المسؤولين الألمان، الذين أبدوا حماساً لافتاً في مباركتهم لما تقوم به إسرائيل من إبادة جماعيَّة والتي تفوق بأضعاف مضاعفةٍ ما فعلته دولتهم باليهود إبان الحكم النازي في أوائل القرن العشرين، وما اللجوء إلى استعمال حق النقض الفيتو لتعطيل إصدار قرار عن مجلس الأمن يقضي بوقف نهائي للحرب إلَّا تغطيةً مفضوحة للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.

العرب فوجئوا بعمليَّة طوفان الأقصى وأربكتهم نتائجها الأوليَّة، إذ رأى بعضهم في توقيتها طعناً لمبادرة السَّلام التي طرحوها واستهدافاً لمسار التَّطبيع الذي انخرطوا فيه، لذا لم يستسيغوا الطوفان «الإغارة»، وأحرجتهم الحرب التي شُنَّت بصدده، ولكن ليس بمقدورهم التزام الصَّمت عما يتعرض له الشًّعب الفلسطيني منذ ما يزيد عن شهرين، لذا اكتفوا بالتَّنديد بالأعمال الحربيَّة والمطالبة بإدخال مساعدات ضَروريَّة للمدنيين في قطاع غزَّة ورفض تَهجيرهم القسري إلى أي من الدول العربيَّة، مناشدين المجتمع الدَّولي الضغط على الكيان الإسرائيلي لوقف حملة الإبادة الجماعيَّة التي يشنها، ولكن للأسف إن كل مواقفهم ومناشداتهم باءت بالفشل، لكونها مواقف ارتكاسيَّة لا ترق إلى مواقف أسلافهم المُشرِّفة.

 

وبروق لي في هذا الظرف العصيب التذكير بمواقف اثنين من كبار قادة العرب، والتي أدلوا بها في ظروفٍ مماثلة لما يتعرَّضُ له الشَّعب الفلسطيني اليوم في غزَّة، عله يسترشد بها القادة الحاليون، وأعني بذلك مواقف كل من المغفور لهما جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود وجمال عبد الناصر، ومما قاله الأول: «لقد كنا نعيش تحت الخيام ونستطيع أن نعود إليها، فإن نخسر المال خير من أن نخسَر الشَّرف» ومن أقواله: «إن الأكباد لتنفطر، وإن الجوارح لتتمزق حينما نسمع أو نرى إخوة لنا تنتهك حرماتهم؛ يشرّدون وينكَّل بهم يومياً لا لشيء ارتكبوه ولا لاعتداء اعتدوه، وإنما لحب السيطرة والعدوان ولارتكاب الظلم»، وقوله «إذا حلَّت الساعة ودق جرس الحرب فستروني أنا بنفسي وإخوتي وأبنائي أمامكم، وإني لا أقول ذلك لا رياءً ولا تزلُّفا بل عن عقيدة ثابتة… وإن اقتصرنا على الخطب والتصريحات والوعود والوعيد، فهذا ليس شأننا أيها الإخوان ولا شأنكم ونحن حينما نصر على سيادتنا لا يهمّنا أن يزعل الغرب». وفي ذات السياق قال الزَّعيم الناصري: «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» وكذلك قوله «إن الحق بغير القوة ضائع، والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه استسلام». ومما قاله أيضًا «سوف نعود الى القدس وسوف تعود القدس إلينا ولسوف نحارب من أجل ذلك، ولن نلقي السلاح حتى ينصر الله جنده»، وأية مقارنة بما بخطاب اليوم تبيّن حجم الإنكفاء والتخاذل.

 

إن ما يحصلُ في غزَّة اليوم يدمي القلب، ويندى له الجبين، ولا تقتصرُ تبعاته على سُكَّان غزَّة حصرًا ولا حتى على الشَّعب الفلسطيني، إنما سيشكِّلُ وَصمَةَ عارٍ للعالمين العربي والإسلامي، وللبشريَّة جمعاء. لأن ما حصلَ ويحصل من فظاعات لم يسبق أن شهدت المُجتمعاتُ البشريَّة عبر التاريخ بفظاعتها وحقارتها ووحشيَّتها ودناءة مآربها.

الإسرائيليون ماضون في مخطَّتهم التهجيري، مستندون إلى الدَّعم الغربي، غير آبهين بكل التنديدات العربيَّة ولا بوعيد الممانعة، والأخطر من ذلك الحرب النَّفسيَّةُ التي تشنّ عبر مساعٍ ومبادرات غربيَّة تحمل في طياتها تهديدات مبطنة وضغوطات لتمرير هذا المخطط اللعين، بالتسويق والرشاوى السياسيَّةِ حينًا وبالوعيد والتهديد أحيان أخرى.

لم تعد بخافية، رغبةُ بعض العرب في التخلص من حماس، وأن أول الشامتين بها هم القيِّمون على السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، ويليهم بعض الزعماء العرب الذين يرون في حماس أداة تستخدم لشق الصف الفلسطيني، ويرون في تركها منفردة في حلبة الصراع تأديباً لها على تخلّيها عن العباءة العربيَّة، وتموضعها على السجادة الإيرانية، وهم راغبون في تحجيم دورها بعد أن عجزَ داعمها عن حمايتها وتركوها وحيدة وسط حلبة الصراع.

يغفل العرب وسائر الممانعين أن هذه المناكفات والمهاترات بين الأخوة لا تخدم سوى الكيان الإسرائيلي، لكونها تمكّنه من الاستفراد بحماس ومن ثم بغيرها، والنفاذ بمخططه التهجيري، بإفراغ شمال قطاع غزة ووسطه من السكان، والقضاء على كل مقومات الحياة الأساسية فيه وتدمير البنى التحتية كالمستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة ومحطات الطاقة والمياه ومختلف المرافق الحيوية.

أهل غزَّة الذين يتصدّون للعدوان وهم في العراء وسط العواصف والبرد تنفذ به مجازر متلاحقة، والصابرون على الضَّيم جراء ما أصابهم من نزف دموي متواصل، والكاظمون الغيظ تجاه سكوت العرب والمجتمع الدَّولي على جور أعدائهم، لم يعد بمقدورهم الصمود مطولاً، ورغم ذلك تراهم حريصون على الحفاظَ على عنفوانهم وكرامتهم وصونِ شرفهم بإمكانيَّاتهم المتواضعة، أمَّا العرب فأخذتهم الفرقة والتَّفرد إلى الإستسلام، لذا يبدون منهزمين متخلين عن وحدتهم متخلين عن مقدساتهم، وعروبتهم متنازلين عن مكانتهم، وكرامتهم وفاقدي الهيبة على السَّاحتين الإقليميَّة والدَّولية، لتنكرهم عن واجباتهم تجاه الشَّعب الفلسطيني.

وأنَّ يكون مآل الأمور في غزة وخارجها أرى أن التاريخ لن يرحم المتأمرين والمتخاذلين والمقصرين، وحتى المجتهدين المخطئين، وعليه، فإن بطولات القسَّام لن تشفع لحماس في تهورها، وتعاطف أهل السلطة الفلسطينيَّة لن يشفع لأهل الضِّفة تخاذلهم، والتَّحركات الدبلوماسية لن تشفع لإيران زجّها لحماس في آتون النِّزاع من دون تحسُّب للعواقب وتملصها من مسؤوليَّاتها، واعتماد تكتيك المشاغلة الجانبيَّة بدلاً من استراتيجية الجبهات المفتوحة لن يشفع لمحور الممانعة عدم انخراط كل مكوناته في الحرب، وإطلاق البيانات لن يشفع للجامعة العربيَّة تقصيرها في الدِّفاع عن القضية الفلسطينيَّة، والاكتفاء بإطلاق المواقف لن يشفع للحكام العرب تغافلهم عن نكبة قطاع غزَّة، وإبداء العواطف والإعراب عن التعاطف لن يشفع للشعب العربي تخاذله في الضَّغط على حُكامه للوقوف موقف مشرِّف، وتلطّي بعض القادة الغربيين خلف عبارات منمّقة لن يشفع لهم انحيازهم الأعمى لكيان غاصب في إبادته لشَعب يدافع عن حقوقه المغتصبة.

ونخلص للقول بدعوتنا لكافَّة المعنيين في ما يدور على أرض غزَّة، وبخاصَّة الفاعلين منهم على السَّاحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة بضرورة إعادة النَّظر بمواقفهم ومقارباتهم على نحوٍ يوقف العدوان فوراً، ويلجم التَّوجهات الإسرائيليَّة العنصريَّة، ويضع حدًّا للإنحياز الغربي غير العادل؛ وعلى المسؤولين العرب أن يبادروا فوراً إلى وقف مختلف أشكال التواصل مع الكيان الإسرائيلي، وسحب السفراء المعتمدين من قبلهم لدى جميع الدول الدَّاعمة له، وسدِّ جميع الممرات الدَّولية على السفن العابرة منه وإليه، ورفض التَّباحث بأية حلول أو معطيات قبل الإعلان عن وقف لإطلاق النار، والموافقة على تبني مقاربةٍ سلميَّة لإنهاء الصراع العربي – الفلسطيني وفقًا للمبادرة العربيَّة للسلام والقائمة على حل الدَّولتين، وبما يتوافق مع روحيَّةِ القرارات الدَّولية ذات العلاقة، وضمان عودة جميع النازحين الفلسطينيين إلى أرضهم ووطنهم الأم.

* عميد متقاعد