ثمانية أشهر مرّت على بداية معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي وفتح جبهة إسناد غزة في جنوب لبنان في الثامن منه في مواجهة الحرب الإنتقامية وحرب الإبادة التي يشنّها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في ظل استمرار عجزه عن تحقيق أهدافه المعلنة ولا سيما القضاء على حركة المقاومة الإسلامية حماس وتحرير الأسرى والرهائن بالقوة، وذلك بعد فشل الوساطات والقرارات الدولية في التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب والأعمال القتالية وإتمام صفقة التبادل وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة وإعادة الإعمار ضمن مسار شامل قائم على حل الدولتين.
في هذه الآونة تساؤلات كثيرة حول فرص خطة بايدن الأخيرة لإنهاء الحرب، والتي قيل عنها أنها مقترح إسرائيلي، وقيل عنها في المقابل أنها تخدم حماس و«السنوار» ولا تلبّي مصالح إسرائيل وأمنها وسيادتها، وقيل أنها خطة «نتنياهو»، وقيل أنها على العكس خطة ضد «نتنياهو»، قيل وقيل والمُشاهَد المعلوم والمفعول لغاية اللحظة في فلسطين وجنوب لبنان؛ إستمرار عداد عشرات آلاف الشهداء والضحايا والدمار في الازدياد، وتصاعد وتيرة استخدام الأسلحة المحظرة دولياً ضد الإنسان والبيئة وكافة المرافق الحيوية، والإصرار على القتل العشوائي للمدنيين من الرجال والنساء والأطفال دون تمييز.
إن آلة الإجرام والقتل الصهيونية وما بلغته من حدود لا سابق لها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي منذ نكبة العام ١٩٤٨، بل أنها فاقت كل الحدود والتصورات من خلال نسبة الدمار الهائل ونسبة القتل المهولة للسكان الفلسطينيين فوق رقع جغرافية صغيرة ومكتظة من شمال قطاع غزة إلى وسطه وجنوبه وصولاً إلى رفح على الحدود المصرية، وكذلك إن ما أحدثته هذه الأفعال التي ينطبق عليها وصف إرهاب الدولة من صحوة وانتفاضة لدى غالبية الدول والشعوب في العالم لا تترك مجالاً للشك في حتمية المواجهة مع العدو الإسرائيلي، والحاجة إلى مقاومة هذا العدو المتغطرس بدعم الولايات المتحدة الأميركية والغرب، وبتخاذل دول الشرق وضعف وشرذمة العالمين العربي والإسلامي، لأنه ما دون ذلك استسلام كامل وهزيمة لكرامة الإنسان على مستوى العالم وزوال للحق التاريخي لأبناء الشعب الفلسطيني.
هذه الحتمية في مواجهة العدوان الصهيوني وجرائمه المستمرة ضد الإنسانية، لا تمنع من تساؤلات عديدة ومشروعة يمكن طرحها حول الطوفان في غزة وجنوب لبنان، وذلك من موقع الإنسان الفلسطيني الصامد والصابر، ومثله الإنسان اللبناني والجنوبي على وجه الخصوص لما تعرضوا ويتعرضون له من قتل وتهجير ودمار هائل منذ عشرات السنين. نحن أبناء الشعبين اللبناني والفلسطيني، نحن أصحاب الحق والأرض والنضال، ونحن من يرسم أحلامنا لبناء المستقبل وطريقه المعبّد لأحفادنا وأجيالنا القادمة.
• هل أخذت حماس والفصائل الفلسطينية المشاركة في طوفان الأقصى بالعِبر من نتائج حرب تشرين العام ١٩٧٣؟ نصر عسكري أوّلي تحوّل تدريجياً إلى هزيمة عسكرية بعد دعم الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل، وهزيمة عربية سياسية كاملة مع توقيع اتفاقات كامب دايفيد التي أخرجت مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي.
• ما هو الأفق السياسي والعسكري لمعركة طوفان الأقصى؟ هل كان الأخوة في المقاومة الفلسطينية يعلمون حجم ردة الفعل الإجرامية للكيان الصهيوني وداعميه من دول الغرب تحديداً والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص؟ هل كنا نعلم كشعب فلسطيني أن من تداعيات الطوفان حرب إبادة جماعية لم يسبق لها مثيل ومع ذلك خضنا هذه المعركة وفي هذا الطوفان؟
• ما هي النتائج السياسية والعسكرية ومدى تناسب الخسائر بين المدنيين والعسكريين من الطرفين؟ هل النتائج المرجوة خطوة نحو حل الدولتين أم خطوة نحو زوال الكيان الصهيوني، أم هي خطوة كانت نحو زوال غزة وفلسطين واختزال الرجاء بإعادة إعمار القطاع بعد هذا الطوفان والحريق الإرهابي والإنتقامي الذي أشعله نتنياهو بمباركة الرئيس الأميركي جو بايدن؟
• هل كانت حماس تعتقد أن بإمكانها تحقيق النصر للشعب الفلسطيني وعلى طريق تحرير القدس في ظل الإنقسامات والصراعات بين الأخوة الفلسطينيين بسبب التبعية لسياسات المحاور على حساب الأمن القومي الفلسطيني والأمن القومي العربي؟ هل قيام حماس وفصائل الطوفان بحرب هجومية على العدو الإسرائيلي وإذلاله وتهديد وجوده في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ كان اللحظة التاريخية المناسبة ليكون طوفان الأمة العربية والإسلامية ومعركة العزة على طريق تحرير الأقصى؟ أم أنها كانت لحظة لنكبة أكبر وأخطر على القضية الفلسطينية؟
• هل أن صمود المقاومين والمجاهدين في الميدان والثقة بثباتهم في المعركة تعني القبول بالتضحية بالشعب الفلسطيني الأعزل الذي يعلم علم اليقين أن العرب منذ كامب دايفيد قد أصبحوا خارج دائرة الصراع المباشر، وكذلك تركيا الدولة الإسلامية الكبيرة هي خارج الصراع المباشر مع العدو الإسرائيلي، ناهيك عمن يرى في مشروع إيران تهديداً للأمن القومي العربي من العراق إلى السعودية والإمارات والبحرين واليمن وسوريا وصولاً إلى لبنان وفلسطين؟ إنقسامات حادة وصراعات داخل الأمة يجب تحليلها ونقدها وإدراكها والعمل على التغيير فيها بعيداً عن طوفان الخطابات والشعارات والعصبيات الدينية والطائفية والمذهبية، وإلّا فإننا سنبقى رهائن للجهل والباطل ولن يكون أمامنا فرصة لنجد طريق الحق والنصر ولو بعد حين.
• ماذا عن جبهة إسناد غزة في جنوب لبنان؟ نحن نقاوم العدو الإسرائيلي منذ ما قبل تحرير الجنوب اللبناني في العام ٢٠٠٠. استمرت المقاومة وخاضت مع اللبنانيين حرب تموز ٢٠٠٦ وتوحد الجميع في مواجهة العدوان الإسرائيلي غير المتناسب مع العملية التي قام بها حزب الله على الحدود الجنوبية بالرغم من عدم موافقة كثير من الفرقاء اللبنانيين على استئثار حزب الله بقرارات الحرب والسلم على حساب قرار الدولة ومؤسساتها الشرعية في لبنان. وها هي المقاومة اليوم مستمرة في إسنادها لغزة من جنوب لبنان بقرار ذاتي دون الرجوع او الوقوف على قرار الدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية المعطلة من فراغ رئاسي إلى حكومة مستقيلة ومجلس نيابي لا يجتمع، والأصح بقرار من قيادة محور المقاومة في طهران، وهذه مسألة جليّة على غرار ما تقوم به المقاومة في العراق والحوثيون في اليمن والبحر الأحمر بالتنسيق مع إيران. والسؤال الآن: هل فعلاً أن جبهات الإسناد لغزة بما فيها جبهة جنوب لبنان قد خففت من ثقل المصير الكارثي الذي يلقاه الشعب الفلسطيني؟ أم أنها ساهمت في تمديد الرقعة الكارثية للإجرام الإسرائيلي وفي زيادة عدد الشهداء والضحايا دون تحقيق إنجازات حقيقية تذكر على طريق تحرير القدس؟!
• وإذا كانت المواقف الأميركية والإيرانية متفقة في البداية أنه لا تورط إيراني مباشر في عملية طوفان الأقصى، وذلك لحساب منطق الصفقة والتسوية بين الطرفين بعد انتهاء الحرب، وإن كانت واشنطن تؤكد على تواطؤ طهران في دعم حماس عموماً. وإذا كان السيد نصر الله قد ذهب في هذا الإتجاه بعد حوالي الشهر على اندلاع هذه الحرب عندما قال أن طوفان الأقصى فلسطيني مئة بالمئة! إذا كان موقف السيد نصر الله وآلية الإسناد المنضبطة يوضعان في إطار الحكمة وعدم توريط لبنان في مصير مشابه لمصير غزة، وإذا كانت كرة الثلج تكبر وتهدد بحرب شاملة في حال حدوث خطأ ما او فقدان السيطرة من جهة معينة، وذلك على غرار دعوة وزير خارجية إسرائيل «يسرائيل كاتس» إلى ضرب بيروت عاصمة الارهاب بحسب تعبيره، فإن منطقاً موضوعياً وموازياً يقود للقول بأن حركة حماس والفصائل الفلسطينية المنضوية في المحور الإيراني قد جانبتها الحكمة والصواب في تنفيذ عملية السابع من اكتوبر ٢٠٢٣.
إن دول العالم والشعوب بغالبيتها وإن بدت مواقفها وإداناتها لجرائم إسرائيل وحربها الهمجية في تصاعد نوعي وكمي ولا سيما مع اعترافات العديد من الدول الاوروبية بدولة فلسطين وتصويت اكثر من ١٤٢ دولة على قبول عضوية فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وطلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان استصدار مذكرات اعتقال دولية بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي غالانت، إلّا أن هذه الدول والشعوب بتسجيل هذا النوع من المواقف المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة في غزة والضفة الغربية لا زال قسم كبير منها يرى في ما قامت به حركة حماس في ٧ اكتوبر أعمالاً إجرامية وإرهابية يستحق قادتها عليها الملاحقة الجنائية وهو ما دفع بمدعي عام الجنائية الدولية إلى طلب اصدار أوامر اعتقال أيضاً بحق قادة حماس: يحيى السنوار، ومحمد الضيف واسماعيل هنية. وبالتالي فالمدعي العام من الناحية القانونية البحتة عندما ينظر في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية على سبيل المثال ويطلب اتخاذ القرارات القضائية بشأنها ليس معنياً بالتمييز بين قادة الإحتلال وقادة حركات المقاومة والتحرير، وإنما هو معني بالتثبت من وقوع الجرائم المعاقب عليها في القانون الدولي الإنساني وفقاً للإتفاقيات الدولية ولنظام المحكمة الدولية التابع لها.
قبل ثلاثة أشهر تقريباً اجتمعت الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة فتح وحركة حماس والجهاد الإسلامي في موسكو. كان اجتماعاً مهماً وبياناً مشتركاً على مستوى اللحظة التاريخية لتوحيد الشعب الفلسطيني بمختلف فصائله ومكوناته تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. البيان ركز على وجوب التصدي للعدوان وحرب الإبادة والتهجير، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وكاملة السيادة وعاصمتها القدس وفقاً للقرارات الدولية. ولكن مع الأسف عادت الإنقسامات الفلسطينية سريعاً بين السلطة وبين حماس لتعيد تظهير الخلافات العميقة والمتأصلة بين هذه القوى والمحاور التابعة لها، فلا يعود مع ذلك أمل بنصر بقريب أو بوعي حقيقي بمصير ومستقبل هذا الجيل والأجيال القادمة من الشعب الفلسطيني.
بين حتمية المواجهة مع العدو الإسرائيلي والحاجة إلى مقاومة كل محتل، وبين وجوب بناء مشروع للدولة تنضوي فيه كافة المكونات الوطنية سواء في لبنان أو فلسطين وباقي الدول العربية، فلا يكون مشروع المقاومة أكبر من مشروع الدولة ولا نقيضها، تساؤلات مشروعة حول سرديات طوفان الأقصى وجبهات إسناد غزة. قد يكون الواقع والإنقسام والمصالح والتبعية للخارج والأنانية أقوى بكثير من محاولة الإقناع بسلوك طريق مختلف وطويل، بل هو كذلك بالفعل، إلا أن الأفكار والدعوات الإنسانية الصادقة تسلك طريقها في العقول المتفتحة، وإن الأفكار النابعة من محبة الإنسان لأخيه الإنسان لتجد طريقها في نصرة الحق وفي الدفاع عن المظلومين.