تحققت هدنة غزة بجهود عربية قادتها جمهورية مصر العربية ودولة قطر مع الولايات المتحدة الأميركية. الهدنة التي يحتاجها الجميع كرّستها إنسيابية فلسطينية مع الجهات المفاوضة ولم تعطلها المبالغات الإسرائيلية والتهديدات المتكرّرة باستئناف القتال مع كل لائحة تبادل جديدة. أن عدد الأسرى الإسرائيليين ونمط التبادل المعتمد سيفترض تمديد الهدنة لمدة شهر تقريباً، وسيتزامن ذلك دون شك مع تدخل دبلوماسي دولي تقوده الولايات المتحدة وستكون أولى أولوياته تأمين حماية إسرائيل، بعد أن أنهى طوفان الأقصى وظيفتها الأمنية المفترضة التي بُنيت عليها سيناريوهات عديدة لإعادة تشكيل المنطقة.
توقف القتال في غزة وتوقفت معه المناوشات في الجنوب اللبناني. وبالتزامن مع هدنة غزة دعت «كتائب حزب الله» العراقية في خطوة غير مسبوقة إلى وقف التصعيد ضد المواقع والمعسكرات التي تنتشر فيها القوات الأميركية في العراق. وقف القتال سواء في الجنوب اللبناني أو في العراق لم يفاوض أحد من أجله، ولم يرِد في دقائق الهدنة التي عُقدت بين إسرائيل وحركة حماس، وبالتالي فلا يمكن النظر اليه سوى كالتزام فرضته إشارة إيرانية عبّرت عنها مواقف وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في بيروت والدوحة.
الإشارة الإيرانية هي في الوقت عينه استعراض شاءته طهران لإظهار قدرتها في السيطرة على قرار الفصائل المسلحة، والتأكيد على دورٍ ترومه وتريد البناء عليه في أمن القوات الأميركية في العراق وسوريا واستقرار حدود إسرائيل الشمالية مع لبنان وسوريا. وبعبارة أخرى أرادت طهران عبر التزام فصائلها بالهدنة تزامناً مع غزة الإيحاء بأنها طرف غير معلن في التفاوض العربي الأميركي الذي أفضى للتوصل الى الهدنة.
في السياق عينه تعاملت واشنطن مع وحدة الساحات التي حاولت طهران التأكيد عليها عبر أذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن ــــ بالرغم من موقفها المتنصل من طوفان الأقصى ـــــــــــ بما يمكن اعتباره خروجاً عن قواعد الإشتباك المتعارف عليها بينهما. لقد وجّهت القوات الجوية الأميركية للميليشيات المرتبطة بإيران والتي تتهمها بمهاجمة قواتها في قواعد بالعراق وسوريا وللمرة الأولى، ضربات إنتقامية أدت الى سقوط عدد من القتلى في صفوفها.
وفيما يؤكد الإنتقال الى مرحلة جديدة مع طهران أحبطت القوات البحرية الأميركية عمليات القرصنة على الحاملات التجارية في بحر عمان والبحر الأحمر ، واعتقلت منفذيها، كما أخرجت مطار دمشق بشكل دائم عن الخدمة. أما في ما يتعلق بالجبهة الشمالية مع لبنان فإن توسّع الإشتباكات الى خارج مزارع شبعا ـــــــ التي اعتُمدت منذ العام 2006 كبقعة لتبادل الرسائل النارية غير القاتلة بين إسرائيل وحزب الله ــــــــــــ لتشمل الحدود الجنوبية يؤكد سمات المرحلة الجديدة القائمة على المواجهة.
يعود التبدل الأميركي الى مسألتين: القلق الحقيقي على مستقبل إسرائيل بعد الإختبار القاسي الذي يهدد بزوالها، وانتشار أساطيلها في المنطقة بما يغنيها عن توزيع الأدوار على القوى الإقليمية ومنها إيران . لا تعني الهدنة المحكومة بالتمديد حتى الإنتهاء من تبادل الأسرى أن الحرب على غزة قد وضعت أوزارها، وأن تمديد الهدنة سيفضي بطريقة سلسة الى وقف دائم لإطلاق النار وإلى إطلاق عملية سياسية. قد تكون الحرب على غزة مرشحة لجولات جديدة، لأسباب إسرائيلية أو أميركية وربما فلسطينية، لكن الدروس المستقاة من شمال غزة مرشحة للتكرار كذلك. يمثل تعثّر الإتفاق ما بعد إطلاق الأسرى مأزقاً حقيقياً سيفضي إلى مرحلة جديدة من القتال لن تكون أقل وحشية وتدميراً من المرحلة الأولى ولن تكون القوات الإسرائيلية فيها أقل إخفاقاً مما سيأخذ الحرب إلى الأفق المسدود عينه.
إن تجاهل وربما إسقاط قواعد الإشتباك من قبل الولايات المتحدة هو جزء من البراغماتية الأميركية في التعامل مع كل التحالفات التي عقدتها منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية ثم ما لبثت انقلبت عليها تبعاً لتغير لظروف والمصالح، وهذا ما لا تبدو طهران قادرة على التأقلم معه. فهل تحاول طهران المغامرة مجدداً مع إنطلاق المرحلة الجديدة بمحاولة إعادة الحياة الى وحدة الساحات التي أخفقت في استثمارها في المرحلة السابقة؟ وهل تسقط الهدنة في لبنان بالتزامن مع سقوطها في غزة وتدفع طهران بالجنوب اللبناني مجدداً للإنضمام الى المواجهات التي سفتح في شمال شرق سوريا وفي العراق، وإلى عمليات القرصنة التي ستستعيد نشاطها في البحر الأحمر وخليج عمان، في محاولة لدخول المشهد الإقليمي مجدداً؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات