عبّرت مصادر ديبلوماسية وسياسية عن مخاوفها مما بلغته «حرب غزة» بوجهيها «طوفان الأقصى» و»السيوف الحديدية»، بعدما تعدّدت المآزق التي دخلتها بطريقة يُخشى من ان تتحوّل عملية استنزاف، إن تعذّر على الفصائل الفلسطينية تحقيق الحدّ الأدنى مما أرادته، وعجزت اسرائيل عن تحقيق أهدافها بعدما بالغت في رسم سقوفها. وعليه، لا بدّ من انتظار المفاوضات الجارية توصلاً الى ما يؤدي الى تبيان نتائجها.
يبدو للمراجع الديبلوماسية والاستخبارية أنّه وعلى الرغم من وضوح الأهداف التي تحدثت عنها حركة «حماس» من خلال العملية ـ الصاعقة التي شنتها في السابع من تشرين الأول الماضي لجهة الإفراج عن أسراها في السجون الاسرائيلية والترتيبات التي تطالب بها في المسجد الاقصى والقدس، فإنّ ما وضعته اسرائيل من اهداف لعمليتها العسكرية اقتربت من ان تكون مستحيلة. فهي جنّدت ما جنّدته من قوة عسكرية ومن ترسانة تدميرية ما زالت تبحث عن «نصر ما» يغطي جموحها إلى تغطية ما ارتكبته من مجازر فاقت كل تصور، من دون ان تتمكن من إقناع من وعدتهم بمثل هذا الانتصار أنّه قد تحقق.
على هذه القاعدة توسعت دائرة المخاوف لدى المراقبين مما يمكن ان تقود اليه العمليات العسكرية في المرحلة المقبلة، وقد سقطت على التوالي مجموعة من السيناريوهات الواقعية التي توقّع العالم نماذج منها، لتستعيد اسرائيل عبرها شيئاً يعوّض حجم الضربة الكبيرة التي أصابتها، تمهيداً للبحث في المراحل المؤدية الى وقفها والبدء بالحلول الممكنة لإنهاء الأزمة ووقف حمام الدم الذي قادت إليه. فالساعون الى الحل من كل الأطراف يُجمعون على القول انّه لا يمكن البحث في اليوم الأول الذي يلي إنهاء الحرب قبل ان تستعيد اسرائيل شيئاً من الثقة التي فقدت والهيبة التي ضاعت والصورة التي اهتزت أمام الداخل والخارج، الى درجة وُصفت بـ«النكسة العظيمة».
ولذلك، فقد عجزت معظم المراجع المعنية بالبحث عن الحلول التي تعدّدت وجوهها العسكرية والانسانية والديبلوماسية، عن رسم مجموعة الخطوط الحمر التي يمكن ان تشكّل محطة تسمح بالانتقال الى اي من المخارج المقترحة، بعدما تعدّدت المحاولات على المستويات الاقليمية والدولية، وانخرطت فيها القوى الدولية والإقليمية التي تعتقد أنّها قادرة على التأثير في مجرى الأحداث منذ ان انطلقت الشرارة الاولى للحرب، وفي مقاربتها للتطورات المحتملة بين ان تبقى حرباً محصورة بقطاع غزة وغلافها والاراضي الفلسطينية المحتلة، او تتوسع لتشمل الجبهات الاخرى قياساً على حجم التوقعات باحتمال نشوب حرب اقليمية تنخرط فيها قوى المنطقة بالإنابة عن المحاور الكبرى.
وإن طُلب الى هذه المراجع تقديم نماذج منها فلا ترى صعوبة او حرجاً في تفنيدها على مستوى طرفي النزاع مباشرة، وكما بالنسبة الى القوى التي تدعمهما، ويمكن الإشارة إليها بالآتي:
على مستوى القوى التي تدعم «حماس» والتي انخرطت في المواجهة في اليوم التالي لعملية «طوفان الأقصى»، فما زال الغموض يحوط بترسيمها الحقيقي للخطوط الحمر التي يمكن ان تقودها إلى حرب شاملة تنخرط فيها قواها دفعةً واحدة، انطلاقاً من الحديث عن مبدأ «وحدة الساحات» الذي تمّ التسويق له قبل انفجار الوضع. فالساحات المحكي عنها كانت «الطوق الاول» لإسرائيل لوجود قواها على مسافة «المتر الواحد» من الحدود البرية الثلاثة للأراضي الفلسطينية المحتلة والجولان. وإن انخرطت فيها القوى العراقية واليمنية المشمولة بهذه الوحدة، فهي ستشكّل «الطوق الثاني» الأوسع. وهو ما أظهرته الحملات الإعلامية والديبلوماسية والعسكرية التي واكبت الساعات الأولى لعملية الطوفان، وما عكسته من مفاجآت لم تكن محسوبة ولا متوقعة قياساً على حجم ما تسبّبت به من صدمة مذهلة في الداخل الاسرائيلي والمنطقة والعالم.
وعلى وقع هذه الخريطة من المواقف المتلاحقة، قيل أولاً انّ أمام هذه القوى خطاً أحمر يتعلق بالغزو البري لقطاع غزة، مع التحذير مما قد يلحق بجيشها من نكسات وخيبات. ومن بعده هناك من حذّر من حجم ما قد يلحق بالمدنيين من قتل ومجازر او اي سعي إلى طرد الفلسطينيين من القطاع وإخلائه من سكانه في اتجاه مصر او سيناء او الاردن او اي منطقة اخرى. فـ»الترانسفير» كما حلم به الاسرائيليون وخطّطوا له من قبل ممنوع. ولكن، وبعد ما انتهى اليه العدوان الاسرائيلي في الأيام الأولى من الغزو البري، لم يظهر انّ سقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى بمن فيهم من النساء والأطفال المدنيين يمكن ان يكون خطاً احمر، فرُفع شعار آخر يقول بعدم إسقاط «حماس» او السماح بالوصول الى خسارتها للحرب، فتعاظمت العملية البرّية وتعددت المجازر التي ارتُكبت في المستشفيات والأحياء السكنية التي دُمّرت ولم يتغيّر شيء بارز سوى على الجبهة اللبنانية، فتوسعت رقعة العمليات النوعية وبقيت المناوشات محدودة على جبهة الجولان وغابت عن الجبهة الاردنية بعد صواريخ اليمن التي لم تصل معظمها الى اسرائيل، على وقع الصواريخ التي استهدفت القواعد الاميركية في العراق وسوريا.
أما على مستوى العدوان الاسرائيلي، فقد تلاقت القراءات بحثاً عن الخطوط الحمر التي رسمتها تل ابيب، على العجز عن تحقيق اي منها حتى اليوم. فإن قيل انّها ستقضي على «حماس» وتقتل قادتها، بعدما وضعت لائحة بأسماء ستة من قادتها، فهم ما زالوا في أمان ولم تستطع إسرائيل ان تصل الى اي منهم. وإن تحدثت عن بعض القادة الميدانيين فإنّه لم يظهر انّ من بين من وصلوا اليهم – إن تحقق ذلك – سيغيّر غيابه من قواعد اللعبة. وإن قيل بوقف اطلاق الصواريخ فهي عملية مستمرة ولو بدرجة اقل نسبياً، وإن وصل الأمر الى موضوع «الترانسفير» فقد جاءت المواقف الاردنية والمصرية لتقفل الطريق على اي فكرة من هذا النوع، عدا عن تشبث الفلسطينيين بأرضهم قبل ان ترفض واشنطن لاحقاً مثل هذا الاقتراح. وإن سعت العملية البرية للوصول الى الأسيرات والأسرى لدى «حماس» وزميلاتها، فلم يصلوا بعد سوى الى اي منهن ومنهم. وجاء الادّعاء بتحرير الجيش الاسرائيلي احداهن في بداية الغزو، ليشكّل فضيحة بعد انكشاف زيف الادّعاء قبل ان يُعلن في الساعات القليلة الماضية عن العثور على جثة أسيرة قرب إحدى مستشفيات القطاع.
ثمة من يعتقد انّ إسرائيل التي سعت الى نصر ما، قصدت من خلال تركيزها على قصف وتدمير المستشفيات الوصول الى شيء لافت واستثنائي، يعوّض فشلها في تحقيق اي انجاز يُذكر، سوى حجم الدمار الذي قادت إليه العملية العسكرية. حتى انّ ما رافق اقتحام وتدمير اجزاء من مستشفيات القطاع وتحديداً «مجمّع الشفاء الطبي» بما يشكّله من رمز بالنسبة الى الفلسطينيين، قد انتهى الى فضيحة كبرى يندى لها جبين العالم. فسقطت الادّعاءات بوجود الأنفاق والاسلحة والمراكز القيادية، وشكّلت مجازرهم مدخلًا الى إدانة دولية باتت تهدّد كل من ناصرها وبّرر لها عملياتها الاجرامية.
وقياساً على ما تقدّم، على مستوى فريقي النزاع ومن يقف خلف كل منهما، فقد تبين انّ البحث عن الخطوط الحمر هو مجرد أمنية. وانّ ما قادت إليه المحاولات الجارية لتغيير الواقع ووضع حدّ للاعمال العسكرية دونها عقبات، وضعت الحرب الدائرة في «نفق عميق» طالما انّه لا «أفق محتسباً» يمكن ان تصل اليه الحرب. فبعض من أهداف الطرفين قد تكون دخلت عالم الغيب ولو كان استحقاقه آتياً لا محال، مع التمني بأن يكون قريباً جداً.