الإعتداء على كل ما يمتُّ إلى الإنسانية في غزة مستمر، ما يجري هو اختبار لقدرة حكومات العالم وقادته قاطبة على امتلاك شجاعة الموقف والإقلاع عن تضليل الذات في التعامل مع المشهد الدامي وكأنه محاكاة لصراع مفترض يتم في نهايته استخلاص الدروس المستفادة.
لقد أقصت غزة كل الأولويات في العالم برمّته وحجبت الأضواء عن كل الصراعات، وتحوّلت إلى مركز ثقل وبقعة تقاطع يرتبك في مساحتها المحدودة أحد أقوى الجيوش في العالم، وترتبك معه قيادته السياسية التي أعلنت لحملتها العسكرية هدفين من المتعذر تحقيقهما: الهدف الأول، سحق حماس المنتشرة في الأنفاق والتي قد لا يعثر الجيش الإسرائيلي على قادتها لإلزامهم بتوقيع وثيقة استسلام وإعلان انتصاره مهما تطورت العملية العسكرية، والهدف الثاني استعادة الأسرى بالوسائل العسكرية ودون تفاوض لأن ذلك يعني الإعتراف مجدداً بحركة حماس .
إن البحث في اسباب الإخفاق الإسرائيلي يتجاوز النظريات التي توفرها العقيدة العسكرية الأميركية وإضافاتها الإسرائيلية التي لم تدرج في صفحاتها دينامية صاحب الحق المستندة الى قهر مزمن ومدى تحولها الى قدرة إضافية في ميزان القوى، كما لم تدرج تداعيات الخوف المتمكّن من قلب وعقل المحتل ومغتصب الأرض على الأداء في الميدان. إنها جدلية صراع الحق مع الباطل الذي لا تكرسه قوة قاهرة، وبهذا يصبح الإستقرار الذي يطلبه المحتل من صاحب الحق أمراً غير مسبوق ومستحيلاً في الوقت عينه.
يُستدل من كل ما يحيط بالموقف الميداني أن الأفق الزمني للحرب على غزة دونه أسابيع وربما أشهر، إذ يبدو أن العناصر اللازمة لإتمام صفقة التوصل الى وقف لإطلاق النار أو حتى لتهدئة إنسانية لأيام قليلة لم تكتمل بعد. يؤكد القلق الإسرائيلي من استعادة حماس لقدرتها على القتال خلال الهدنة المؤقتة وبالرغم من كل التدمير البنيوي للقدرات الفلسطينية على امتداد سبعة أسابيع، أن إسرائيل لا تمتلك القدرة على رسم معالم المرحلة المقبلة، كما يؤكد عدم رضوخ حماس لتسوية غير واضحة الشروط على عدم حراجة الموقف وأنها لا زالت قادرة على القتال أو على الأقل هي قادرة على التظاهر بذلك. هذا بالإضافة أن التوصل لأي هدنة مؤقتة أو حتى لوقف لإطلاق النار لن يشكّل مدخلاً الى حل نهائي في ظل تمسك إسرائيل بأهدافها وعدم إتضاح الأهداف السياسية لحماس.
يتناقض التهديد الإسرائيلي بالإنتقال إلى المرحلة الثانية من العملية العسكرية والتوجه جنوباً مع أبسط قواعد المنطق العسكري، وهو ليس سوى إمعان في التهديد بالمزيد من التدمير الذي لا تجد إسرائيل خياراً سواه. فالوحدات العسكرية الإسرائيلية لا زالت تتعرض لكمائن بشكل مكثف مما يعني أنها لم تتمكن من السيطرة على القسم الشمالي من غزة، كما يعني أن القيادة العسكرية لن تغامر بزج وحداتها البرية وقواتها الخاصة في الأنفاق لتعطيلها تفادياً لمزيد من الخسائر. هذا بالإضافة أن الإختلاف في التصريحات والمواقف بين قادة إسرائيل من المستويين السياسي والعسكري حيال الموقف من التفاوض وشروطه والمهلة المتوقعة للمرحلة الثانية من الحرب التي قد تصل الى سنة وربما أكثر برأي البعض، يستدل منه أن الضياع هو سيد الموقف وأن الخروج من المأزق ليس في متناول إسرائيل.
أمام الموقف المعقد والمفتوح الأفق في غزة يمثل مشهد المناوشات اليومية في الجنوب اللبناني الذي تتعذر معرفة أهدافه، فهو لا يرقى الى مستوى الإشتباك مع العدو الإسرائيلي، ولا يمكن الإدعاء أنه لمساندة الفلسطينيين في غزة إذ لم تتغير وتيرته بالرغم من وحشية المجازر التي يرتكبها العدو يومياً. ينضم الموقف في جنوب لبنان إلى الإستعراضات المتقطّعة التي تقوم بها أذرع إيران في محيط القواعد الأميركية سواء في العراق أو في سوريا دون أية مفاعيل ذات قيمة، وتنضم كذلك إلى ما يجري في اليمن من خلال العراضات الصاروخية التي تستهدف منطقة إيلات وفقاً لزعم الحوثيين، والتي تسقطها البوارج الأميركية المنتشرة من المحيط الهندي حتى البحر المتوسط. القاسم المشترك بين كل تلك العمليات هو نفي طهران أية علاقة لها رغم تأكيدها على الدعم المعنوي والسياسي للجهات المنفذة التي تتبناها، وآخر استعراضاتها العشوائية كانت عملية خطف نفّذها الحوثيون في البحر الأحمر لسفينة شحن بريطانية مؤجرة لشركة يابانية أحد مالكيها رجل أعمال إسرائيلي، بحيث يختلط الموقف حيال الجهة المستهدفة وحيال الوجهة التي سيتم توظيف عملية الخطف لديها.
وفيما تتصف الإستعراضات في كل من سوريا والعرق واليمن بنمط متقطّع يجعل من السهل وقفها بإشارة من طهران، يتخذ الإشتباك العابر للحدود في الجنوب اللبناني طابع الإستدامة بما يجعل من العسير البحث في كيفية إنهائه قبل جلاء الأسباب التي أدت الى إطلاقه وهي ليست حتماً الحرب الدائرة في غزة. تؤكد ضراوة القتال والدمار الهائل في غزة على أسباب المواجهة بين عدوٍ محتل وشعبٍ يسعى الى تكوين دولته، فيما يؤكد إنضباط القتال في جنوب لبنان إن مهمة المساندة التي ألقاها الحزب على نفسه قد تحوّلت إلى مأزق حقيقي في الجنوب وأن أسباب المواجهة كما وقفها ليست في متناول حزب الله وربما ليست في متناول إسرائيل.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات