IMLebanon

خلاصاتٌ جوهريَّة مستقاة من حرب غزة

 

فوجئ العالم أجمع بمبادرة منظَّمة حماس لدولة الإحتلال الإسرائيليَّة بعمليَّةٍ عسكريَّةٍ نوعيَّةٍ سيكشف المقبل من الأيام أنها حقَّقت الغرض منها خلال ساعات معدودات، وأنه يستخلص منها الكثير من العِبَر والاستنتاجات، فرغم تواضع الإمكانات التَّسليحيَّة واللوجستيَّةِ والماليَّة وبساطة الأسلوب يمكن تحقيق نتائج عسكريَّةٍ وجيوسياسيَّة باهرة تفوق التَّوقعات، فيما لو ابتكرت خطط عسكريَّةٌ حسنة الإعداد، ونفِّذت بحرفيَّةٍ عالية. وسيسجِّلُ التاريخ العسكري المعاصرُ هذه الواقعة كسابقةٍ عسكريَّةٍ غير مألوفة، تغلَّبت فيها الحنكةُ العسكريَّةُ والتخطيط المتقن وبساطة الأسلوب والدِّقة في التنفيذ رغم مَحدوديَّة الوسائل على جيش عالي التَّسليح ومزوّد بأحدث التَّجهيزات العسكريَّة ومدجج بأسلحةٍ فتَّاكة.

طوفان الأقصى كعمليَّةٍ خاطفةٍ هي أقرب إلى إغارة منها إلى معركة عسكريَّة، حقَّقت نصراً غير مكتمل لعدمِ توفُّرِ مقوماته، أقلّها انتفاء التناسب بين طرفي النِّزاع، أما الحرب التي أعلنتها إسرائيل على قطاع غزَّة، فهي لا تشبه الحروب في شيء، وأهدافها المعلنة غير قابلة للتَّحقيق، أمَّا نتائجها الميدانيَّة فمشينة ومخزية بحقِّها لأنها عمليَّةُ إبادةٍ جماعيَّة محض تحصل على مرأى ومسمع من العالم أجمع، يُستهدف بها مدنيون بأسلحة فائقة الدِّقة، وبذخائر محرَّمة ذات قوَّة تدميريَّة مروعة، وهذا ما يجعل المنازلة القائمة بين الطَّرفين المتنازعين غير متوازنة ولا عادلة، لاختلال موازين القوى عسكريًّا ولوجستيَّا وسياسيًّا. الطَّرف الأول (حماس) إمكانيَّاته التسليحيَّة ضعيفة ومحدودة كونه محاصر وجل أسلحته مرتجلة ومصنعة ظرفيَّا، وهو مجرد من أي دعم عسكري أو لوجستي أو تأييد معنوي على الرغم من اقتناع أبناءِ جلدته بقدسيَّةِ القضيَّة التي يدافع عنها وصوابيةِ المواقف المعلنة والمطالب المنادى بها وفظاعة مُعانات المدنيين؛ أما الطَّرف الآخر (الكيان الإسرائيلي) فهو مزَّود بأحدث المعدَّات والتَّجهيزات والأسلحة المتطورة، ويحظى بدعم غربي تسليحي ولوجستي ومالي وسياسي غير محدود، وإطلاق يده في ارتكاب ما يشاء من جرائم حرب، وتعامي معظم المنظمات الدَّوليَّة المعنيَّة بحقوق الإنسان وإرساء السَّلم والأمن الدَّوليين عن فظاعاته.

 

ورغم ذلك لقد أماط طوفان غزَّة وما تلاه من حرب اللثام عن الكثير من الحقائق التي كانت غير جليَّة، كما كشف حقيقة الكثير من الوجوه التي كانت تتلطّى خلف أقنعة مزيَّفة وتبرر مواقفها بأحجيات واهية، وسيسفران (الطوفان والحرب) عاجلاً كما آجلاً عن تغيير الكثير من الأمور وسيوجبان إعادة النَّظر في مسائل كان يعتبرها كثيرون من قبيل البديهيَّات التي يقتضي التَّسليم بها وإبقائها خارج إطار التَّداول والبحث.

إن أهم الدروس التي ينبغي استقاؤها من طوفان الأقصى أن الظُّلم والاستبداد والعنف والقمع وكم الأفواه مهما طال أمدها لا يسقطون حقّ ورائه مُطالب، ولا يطمسون الحقائق التاريخية أو تحريفها مهما جرت محاولات لتزويرها. وأنه مهما اختلَّت موازين القوى لصالح الطغاة مهما أطلقوا من تهديدات واقترفوا من مجازر سيبقون أعجز من تثبيط عزيمة أصحاب الحقوق، الذين لن يثنيهم كل ذلك عن الدِّفاع عن أرضهم والمطالبة بحقوقهم والسعي إلى نيلها مهما بلغت التَّضحيات، وأنهم على أتم الجهوزيَّة لبذل الغالي والنَّفيس من أجلها، ومستعدون دائماً للإستشهاد في سبيلها.

 

ومن الدُّروس التي ينبغي استقاؤها من الصراع في غزَّة أن الحروب وما يتخللها من عنف تبقى عاجزة عن توفير حلول جذريَّة مُستدامة مهما أعلن بنتيجتها عن انتصارات واهيَة، وأنه لا مفرَّ من الإحتكام إلى أطر سِلميَّة للوصول إلى حلول جذريَّة للنِّزاعات، وأنه لا بدَّ من مُبادرات متوازنة تراعى فيها أسس العدالة والإنصاف، وحفظ الحد الأدنى من الكرامة الإنسانيَّة لمختلف أطراف النزاع.

لقد كشف طوفان الأقصى والحرب الانتقاميَّة من غزة وما تخللها من ارتكابات همجيَّة، أن ما يسمّى بدولة إسرائيل ما هي إلاَّ كيان عنصري وحشي، متصهينٌ مجرد من القيم الدينيَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة، قائمٌ على تحوير تعاليم الديانة اليهوديَّة ويختزن كراهيَةً لباقي الأديان السَّماويَّة المسيحيَّة كما الإسلاميَّة، ولا يعير اهتماماً لكل المواثيق والإتفاقيَّات الدَّوليَّة. وأنه مهما حاول إخفاء طبيعته العنصريَّة سرعان ما تنكشف حقيقته الهمجيَّة جرَّاء استهدافه للأبرياء العزَّل وفي طليعتهم العجَّز والنِّساء والأطفال بمجازر وحشيَّة، وتدميره لدور العبادة والمستشفيات ومراكز إيواء النَّازحين والأفران والأسواق الشعبيَّة والمساكن المأهولة، هذا عدا تخريبه للبنى التَّحتيَّة المدنيَّة ولمنعه كل مقومات الحياة، وأنه يستسهل استعمال أسلحة قذرة محرَّمة دوليًّا كالقنابل الفوسفوريَّة واليورانيوم المخصَّب، ولا يتورَّع عن اللجوء إلى الأسلحة الجرثوميَّة والكيماويَّة والنَّوويَّة.

 

ومما كشفه الصِّراع في غزة أن دولة إسرائيل ما هي إلَّا كيانٌ مصطنع غير قابل للحياة، يحمل بذور فنائه في الإيديولجيَّة العنصريَّة التي قام عليها، وأن بقاءه رهن باحتضانه سياسيًّا من حكَّام الغرب وبدعمهم له ماليًّا ولوجستيًّا وعسكريًّا، وخير دليل على ذلك عدم قدرته على تحمُّل الصَّفعة الموجعة التي وجَّهتها له حماس والتي أفقدته توازنه، ودفعته للإستغاثة بالغرب سريعاً، ولانعدام ثقة المستوطنين بجيشه وأجهزة مخابراته لفشلهم الذريع في النَّيلِ من المقاومين الفلسطينيين، وتغطيته باستهداف المدنيين والتنكيل بالأبرياء، وأن القبة الحديديَّة التي تغنّوا بها غير فاعلة على نحوٍ يقيهم مخاطرَ تساقط صواريخ القسَّام على مدنهم ومُستعمراتهم.

ومما كشفته حرب غزَّة، أن الفلسطينيين متشبّثون بأرضهم، وملتزمون في الدِّفاع عن مقدّساتهم وأنهم خير من يدافع عن وطنه، وأنهم لن يتخاذلوا في الدفاع عن أرضهم ولم ولن يساوموا على حقوقهم، وأن المقاوم الفلسطيني يمتلك من الشَّجاعة ما يكفي لإذلال أعتى الجيوش وأكثرها تسليحاً، ولا ينقصه سوى وحدة الصَّف.

ومما كشفته حرب غزَّة أن المناكفات الإيرانيَّةِ – العربيَّة لم تخدم سوى الكيان الإسرائيلي بدفعها بعض الدُّول العربيَّة إلى تبني خيار التطبيع مع الكيان ظنًّا منها أنه يدرأ مخاطر التَّحرشات الإيرانيَّة، وأن تقليب إيران لمنظَّمةِ حماس على السلطة الفلسطينيَّة قد أحدث شرخاً عميقاً لدى الشَّعب الفلسطيني، وتسبَّبَ بتشتيت قدراته على مواجهة الاحتلال، ورغم ذلك استطاعت بدعمها لمنظَّمة حماس أن تحدثَ تحوّلاً جذريًّا في ميدان الصَّراع بين إسرائيل وحماس، إلَّا أن إيران ومن تحتضنهم من أذرع ممانعة عربيَّة بقيت أعجز من خوض غمار حرب شاملة، أو مواجهةٍ مُباشرة بينها وبين مع من تنعتها بالشَّيطان الأكبر، ولا حتى مع ربيبتها إسرائيل، وهي تستسيغ تكتيكات التَّحرش بالواسطة بأعدائها وخصومها، للنفاذ بمشروعها الهادف إلى فرض ذاتها كقوة إقليميَّةٍ مهيمنةٍ على منطقة الشرق الأوسط، وبيَّنت أن المواجهة الشَّاملة ووحدة السَّاحات ليست بمتصوَّرة إلَّا في حالة تعرض منشآتها النووية أو صناعاتها العسكريَّة – الاستراتيجيَّة ومرافقها الحيوية لاعتداء عسكري مباشر.

 

ومما كشفه الصِّراع في غزَّة أن القضيَّة الفلسطينيَّة ماثلةٌ في وجدان كُلِّ عربي شريف، وأن الفرق شاسع ما بين روح العزيمة والعنفوان لدى الشعب العربي، والروح الإنهزاميَّة لدى معظم حكامه والتي ترجمت في توسَّلهم هدن إنسانية لإيصال المساعدات لأهل غزَّة بدلاً من الضَّغط لوقف حملة الإبادة الجماعيَّة، وأن أي ضير يطال الفلسطينيين يلهب المشاعر الشعبيَّة، وأن لدى العرب ما يكفي من مقوِّمات جغرافيَّة وجيوسياسيَّة وثروات طبيعيَّة وقدرات بشريَّة كفيلة فيما لو أحسن استغلالها بصون كرامتهم وحفظ أمنهم القومي وكافَة مصالحهم، وأن حالة الوهن التي يعانون منها نابعةٌ من حالة التَّفكك السياسي الذي يردُّ في الغالب لاعتبارات شخصيَّة بين الحكام العرب، وأن الجيوش العربيَّة تبني عقيدتها القتاليَّة على حماية النُّظم لا الدِّفاع عن القضايا العربيَّة الجوهريَّة، وأن جامعة الدُّول العربيَّة اسم على غير مسمى، وهي أشبه بمنظَّمة صوريَّة تقتصر مقراراتها على إبداء العواطف واللياقات ومنجزاتها على الشَّكليَّات، وأن المقاربات التَّطبيعيَّة ما هي إلَّا طعنة في الظَّهر لمبادرة السلام العربيَّة.

ومما كشفه الصراع في غزَّة أن الإدارة الأميركيَّة على وجه التَّحديد والدول الغربيَّة عامَّةً محكومةٌ بسياساتها ومواقفها بتوجهات الصَّهيونيَّة العالميَّة، ككفَّارة عما اقترفوه بحق اليهود، وأما تنادي بالمبادئ الديمقراطيَّة وتلطّيها خلف قيم إنسانيَّة ما هي إلَّا شعاراتٌ تتنكر لها بمجرَّد استشعارها بما يهدِّدُ مصالِحها أو مصالِحَ حلفائها وفي طليعتهم الكيان الإسرائيلي، والذي بدا جليًّا أنه أقيم برعاية غربيَّة ليكون بمثابةِ قاعدةٍ متقدِّمة لزعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسطِ ولمشاغلة الدُّول العربيَّة، وأن مضامين المواثيق والاتفاقيَّات الدَّوليَّة تسخر لتبرير انتهاك حقوق الشعوب في تقرير مصيرها والتدخل في شؤون الدُّول الأخرى. وما انهماك القادة الغربيين في تسويق عملية التهجير الممنهج لسكان قطاع غزة وإطالة أمد الحرب المدمرة إلاَّ إفساحاً في المجال لتمكين الكيان الغاصب من إنزال أكبر قدر من الخسائر بالفلسطينيين ولتبرير انتهاكاته الهمجيَّة، ولكون مواقفهم رهن إملاءات اللوبيات الصَّهيونيَّة، التي توجب عليهم اعتمادَ معايير متناقضة في توصيفهم لكل ما تقوم به الحركات التحررية بالإرهاب، وإصباغ المشروعيَّة على إرهاب الدَّولة الصَّهيونيَّة، وتشويه سمعة كل من يناهض الصَّهيونيَّة بوصمه بتهمةِ معاداة السَّاميَّة.

ومما كشفه الصِّراعُ في غزَّة أن المنظَّمات الدَّوليَّة وفي طليعتها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أعجز من أن تقوم بالمسؤوليَّات التي أنشئت من أجلها، والتي أمست أدواتٌ طيِّعة بتصرف الدول الغربيَّة، وأنه لا بدَّ من إعادة النَّظر في تركيبتها وفي آليَّات اتِّخاذ القرار المعتمدة لديها، وأن المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة أعجزُ من تحقيق العدالة الجنائيَّة الدَّوليَّة وملاحقة كبار المجرمين.

ومما كشفه الصراع في غزَّة أن الرأي العام الشَّعبي أصبح مؤثِّراً في صناعة القرار، في ظِلِّ الإعلام الرقمي وفي طليعته الفضائيَّات المرئية والمسموعة ووسائط التَّواصل الإجتماعي والتي بدت عصيًّة على التعليب والاحتكار، برفضها لحملات التضليل المفبركة، وأنه رغم احتكار الغرب وتحكمه بكل ما ينشر عبر شبكة الإنترنت، بقي هذا الإعلام قادراً على تعميم المستجدات فور حدوثها، رغم مضايقات أجهزة المخابرات الغربية، وربّ نقل عفوي لصورة أو تسجيل صوتي أو مقطع فديو مؤثِّر له وقع أمضى من مئات المحررات والنشرات الإخباريَّة المعدَّة بإتقان.

وأختم بالقول أن كل تفصيل من تفاصيل الحرب في غزة يستحق التوقف عنده مليّا، وربما يستوجب مقالات لشرح أبعاده ومدلولاته، ولكن نكتفي بالإشارة لما كشفته عمليَّةُ تبادل الأسرى من همجيَّةِ في تعامل ضباط وجنود الاحتلال الإسرائيلي مع المعتقلين المحررين من سجونه، وما أبداه المحتجزين اليهود من تقدير واحترام لرقيّ الأدبيات التي مارسها المقاومون الفلسطينيون تجاه أسراهم.

* عميد متقاعد