IMLebanon

بوصلة سياسية عربيّة لم تعد ضائعة

 

لم تكن توجد بوصلة سياسيّة في الشرق الأوسط منذ بدأت المنطقة تعيش في ظلّ الشعارات بدل التعاطي مع الواقع وموازين القوى الفعلية على أرض الواقع. أخذت الشعارات دول المنطقة إلى رفض قرار التقسيم في 1947 ثم إلى كارثة حرب حزيران – يونيو  1967. في أيّامنا هذه، وعلى الرغم من مأساة حرب غزّة، استعادت دول عربيّة معيّنة البوصلة، فيما لا تزال دول أخرى تعيش في حال ضياع… بعدما صارت بوصلتها إيرانيّة. الكلام هنا عن العراق وسوريا ولبنان تحديدا. كذلك ينطبق الكلام هذا على اليمن إلى حدّ ما، أي على الكيان السياسي الذي أقامه الحوثي في شماله.

 

من بين  الشعارات التي قادت إلى مزيد من الكوارث العربيّة تلك التي رفعها البعثان السوري والعراقي اللذان تصالحا فجأة بمجرّد ذهاب رئيس مصر أنور السادات إلى القدس لإلقاء خطابه في الكنيست. كان ذلك في تشرين الثاني – نوفمبر 1977 عندما بدأ البعثان يتحرّكان من أجل تفشيل السادات الذي كان يريد إنقاذ مصر وتمكينها من استعادة أراضيها المحتلّة وإعادة فتح قناة السويس. لم يدرك الحزبان، مثلهما مثل الراحل معمّر القذافي، ما الذي كان على المحكّ في مصر.

 

في 1977، كان مصير البلد العربي الأكبر على كف عفريت بدليل الإضطرابات التي شهدها الشارع المصري  مطلع العام 1977. لم يعد في مصر سكّر وشاي وطحين ومواد أخرى يعشقها المواطن الفقير بعدما أدمن عليها.

 

أدرك السادات في حينه، أي قبل 46  عاما، أن لا خيار آخر لديه غير استعادة الأرض، في ضوء ما تمتلكه سيناء من ثروات نفطية. كان مضطرا إلى فعل ما فعله من أجل إنقاذ مصر التي كانت غارقة في أزمة إقتصادية هددت بانهيار مؤسسات الدولة، بما في ذلك مؤسسة الجيش. كانت المؤسسة العسكرية وما تزال، تشكل الضمانة الأهمّ لإستمرار النظام القائم منذ التخلص من النظام الملكي في العام 1952.

 

مهّد البعثان السوري والعراقي، منذ وقوفهما في وجه مصر، وسعيهما إلى عزلها، لقيام النظام الإقليمي الراهن. يوجد في الوقت الحاضر، نظام إقليمي تسيطر عليه إيران بفضل ما تمتلكه من أذرع في المنطقة، خصوصا بعد سيطرتها على العراق سيطرة كاملة بعد العام 2003. هذا النظام الإقليمي الجديد حصيلة ما ارتكبه النظامان البعثيان في سوريا والعراق وزعماء مثل معمّر القذافي. إنحاز حافظ الأسد إلى إيران في حربها مع العراق وفتح لها الطريق إلى لبنان. أمّا صدّام حسين الذي وقف في وجه «الجمهوريّة الإسلاميّة»، فما لبث أن أرتكب خطيئة إجتياح الكويت التي كانت الخطوة الأولى على طريق خروج العراق من المعادلة العربيّة. يبقى القذّافي الذي عمل كلّ ما يستطيع في كلّ وقت من أجل إضعاف مصر لأسباب مرتبطة بعقد شخصيّة أوّلا.

 

حصلت السيطرة الإيرانيّة على العراق بعدما قدّمت إدارة جورج بوش الإبن هذا البلد العربي المهمّ على صحن من فضّة إلى «الجمهوريّة الإسلاميّة». كان طموح آية الله الخميني، منذ لحظة عودته إلى طهران، تصدير ثورته إلى العراق. إعتبر سقوط العراق نتيجة منطقية لإسقاطه نظام الشاه في شباط – فبراير 1979.

 

أضاع أهل الشرق الأوسط البوصلة السياسيّة في مرحلة ما بعد زيارة أنور السادات للقدس ثمّ توقيع معاهدة السلام المصريّة الإسرائيلية في آذار – مارس 1979. فرض البعثان السوري والعراقي ممثلين بحافظ الأسد وأحمد حسن البكر وصدّام حسين، ثمّ صدّام حسين وحده في الجانب العراقي، أجندتهما على دول الخليج العربي وعلى الأردن. كذلك الأمر على ياسر عرفات القائد التاريخي للشعب الفلسطيني الذي صار اسيرا لوجوده المسلّح في لبنان. لم يستعد «أبو عمّار» حريته السياسيّة سوى بعد خروجه من لبنان وشفائه من وهم «جمهوريّة الفاكهاني» التي أقامها في بيروت.

 

في ضوء إندلاع حرب غزّة التي غيّرت المعطيات الإقليميّة جذريا، يتبيّن بوضوح أن غياب البوصلة السياسيّة لا ينطبق على كلّ الدول العربيّة. يوجد من يسعى إلى وقف الحرب من جهة ويوجد من يريد الإستثمار فيها وفي شقاء الفلسطينيين من جهة أخرى. ثمّة بوصلة عربيّة، لم تتوفّر في 1977، تعكس وعيا عربيّا لرفض خوض أي حرب من أي نوع بتوقيت تفرضه «حماس»، بل يفرضه شخصان هما محمد ضيف ويحيى السنوار. ثمة بوصلة عربيّة ترفض اللعبة الإيرانية والحمساوية في المنطقة. بكلام أوضخ، يرفض العرب الواعون السقوط في فخّ حلف إيران والإخوان المسلمين ومن لفّ لفّ هؤلاء.

 

تحتاج مرحلة حرب غزّة إلى من يفهم المنطقة والعالم بدل الإكتفاء بالبكاء على أطفال غزة وشيوخها ونسائها. لا يمكن مواجهة الوحش الإسرائيلي الذي لم يشبع ولم يشبع من دماء الفلسطينيين عن طريق الشعارات الطنانة ولا عن طريق توريط لبنان في حرب ستقضي على ما بقي منه حتما… خدمة لرغبة إيران في عقد صفقة مع «الشيطان الأكبر» الأميركي.

 

تمضي الحياة كما يجب أن تمضي في دول الخليج العربي، في مقدمها دولة الإمارات والمملكة العربيّة السعوديّة حيث لا رغبة في إضاعة البوصلة، بوصلة التنمية والإهتمام بالمستقبل والإنتماء إلى العالم المتحضر. لمثل هذا التفكير الذي يرفض السقوط في فخّ الشعارات والحروب التي تزيد من عذابات الشعب الفلسطيني ترجمة على أرض الواقع. تتمثل هذه الترجمة بالإبتعاد عن الجنون الذي تعبّر عنه جرائم إسرائيل من جهة والسعي إلى حل سياسي من جهة أخرى. يبدأ ذلك بوقف حرب غزّة بدل السعي إلى إستغلال الشعب الفلسطيني ومأساته لتسجيل نقاط كما تفعل إيران.

 

كشفت حرب غزّة عمق الهوة بين عالمين. عالم يبحث فيه حكامه عن رفاه الشعب وعالم آخر لا يهمه سوى إغراق المنطقة في حروب داخلية لا أفق سياسيا لها كما فعل البعثان السوري والعراقي في الماضي القريب.

 

مارست «حماس» هذه اللعبة التي باتت نهدّد الأردن والتي لا مستفيد منها، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، سوى «الجمهوريّة الإسلاميّة»… إلى إشعار آخر.