Site icon IMLebanon

جبْهتا الأثمان الباهظة

 

 

ليس أبشعَ من نائب المندوبة الأميركية شاهراً «الفيتو» في مجلس الأمن منعاً لوقف النار في غزة. فرفضُ مطلب إنساني ملحّ بحجّة أنّ مشروع القرار الإماراتي لم يُدِن «حماس» جريمةٌ تمدِّد للإسرائيليين رخصة القتل المفتوحة الشهية منذ شهرين.

 

لكن، فيما نشجب مساندة الولايات المتحدة وحشية الدولة العبرية، فإننا نرتكب خطأً فادحاً بالرضوخ لشعبوية تغييب أسئلة جوهرية عن جدوى ما فعلته «حماس» في 7 أكتوبر، وعمّا يمكنها فعله اليوم للخروج من نفق حَشرت شعب غزة بأسره فيه جرّاء احتمال من اثنين: إما عدم تقديرها عواقب عملية تُذلّ «إسبرطةَ» المنطقة، ما يجعلها فاقدة أهلية القيادة الرشيدة؛ أو إدراكها مسبقاً طبيعة الردّ، ما يجعل «طوفان غزة» عملية انتحار جماعي وليس نضالاً عسكرياً يحظى بإجماع في إطار التحرّر الوطني المشروع من الاحتلال.

 

ليس مقبولاً قفلُ النقاش عند «ما حصل قد حصل» فتعالوا الى ملعب «حماس» لأنّ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». فمن حق الفلسطينيين أولاً لأنهم تحت التشريد والركام، واللبنانيين ثانياً لأنهم يرزحون تحت تداعيات جبهة مساندة واحتمالات حرب، والعرب ثالثاً لأنهم معنيون بقضية فلسطين، يتحمّلون أعباءها ولا يوفّرهم المزايدون من الانتقاد والاتهام، أن يسألوا اليوم وفي كل ساعة عن مبررات وضعِ محمد الضيف ويحيى السنوار اليدَ في فم التنين. حق هؤلاء جميعاً النظر بواقعية الى مجريات الحرب في غزة التي لا يجوز اختصارها بالبطولات كونها لم تحُل دون احتلال أجزاء واسعة من القطاع وتشريد مليون ونصف مليون إنسان، فيما وضعت المبادرة وكل أوراق السياسة في حضن إسرائيل.

 

والسؤال موجَّه تلقائياً الى «حزب الله» عن نتائج «مشاغلة» الإسرائيليين بالقصف والصواريخ. ذلك أنّ هدف تخفيف الضغط عن جبهة غزة سقط في اختبار اجتياحها المستمرّ، وتسبَّب لبنانياً بخسارة أرواح وممتلكات ناهيك بالمقامرة ببلد قد يلحق فعلاً بمصير شمال غزة وخان يونس إن فشلت الوساطات، فيما شعبه يقول بالفم الملآن: نحن مع غزة، لكن لا للحرب و«لبنان أولاً».

 

إذا نحَّينا مشاعرنا ورغبتنا في رؤية إسرائيل منكسرة راضخة لمطلب «حل الدولتين» على أقل تقدير، لاكتشفنا أنّ ما تقوم به «حماس» و«حزب الله» حالياً لا يعدو كونه إضاعة وقت باهظ الأثمان في ظلّ ما صار عملياً ثابتتين: إنتهاء حكم «حماس» لغزة، وتطبيق القرار 1701 وفق شروط إسرائيل وبما يضمن لمستوطنيها «الاطمئنان». وهذا الوضع في الجبهتين ما كنّا بلغناه لولا الانحسار التدريجي لشرعيتين مُستضعفتين، وسيطرة نظرية «الساحات». فـ«حماس» طردت السلطة بـ»الحسم العسكري» (2007) لتستأثر بحكم القطاع، و«حزب الله» حوَّل القرار 1701 (2006) الى خرقة بالية من خلال جعله القوات الدولية والجيش اللبناني مجرد نواطير. وفي الحالتين أقامت «الجمهورية الإسلامية» على خط التماس مع إسرائيل وصارت عقارب التهدئة والتوتير تسير وفق توقيت طهران.

 

رغم الجراح، فإنّ «حماس» مطالبة بالحفاظ على ما تبقّى، من خلال الانخراط الفوري في وحدة فلسطينية تؤمِّن وقفاً للأعمال العسكرية وتجهَدُ لاستثمار اليقظة الدولية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية لتحقيق مكسب سياسي ما، مثلما يتوجّب على «حزب الله» تجنيب لبنان الحرب بالإقلاع عن التفاوض بالنار. فالمفاوضات في شأن القرار 1701 والحدود البرية آتية لا محالة، وهي فرصة للحل والاستقرار. وسيكون من العبث التعويل على أي التباس تنتجه تسوية «غموض بنّاء» بين إيران والأميركيين، إذ سيجدِّد الرهان ضد أكثرية لبنانية اكتوت من الحروب و«الساحات» ولا يناسبها إلا استعادة سيادة الدولة وتثبيت «الحياد».