Site icon IMLebanon

خطورة الموقف جنوباً تقتضي وقف كل أشكال المناكفات السياسية لحين وضع الحرب أوزارها

لبنان في حرب، وهو قاب قوسين أو أدنى من الإنزلاق في مواجهةٍ مفتوحة مع العدو، وخطورة المرحلة تقتضي من الجميع التَّوقف عن كل أشكال المُناكفات والمُهاترات السِّياسيَّة حول ما يجري على السَّاحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة، والتَّفرُّغ إلى ترتيب البيت الدَّاخلي قبل فوات الأوان، ولتلافي المزيد من التَّفسُّخات السياسيَّة والانهيار الاقتصادي في لبنان؛ وخُطوةُ البدايةِ تكون بانتخاب رئيس للجمهوريَّة، تمهيداً لإنعاش كافَّة المؤسَّسات الدُّستوريَّة، وإعادة الحيويَّة للقطاع العام الذي أصابه ما أصابه نتيجة السياسات التَّعطيليَّة والمقاربات المُرتجلة التي لم تترك بدعةً إلَّا وتمَّ اللجوء إليها في خرق الدُّستور وانتهاك القوانين لمآرب فئويَّة أو خاصَّة.
منذ الأيام الأولى لشنّ العدو الإسرائيلي حربه المسعورة على قطاع غزَّة ردًّا على عمليَّة طوفان الأقصى، بدا واضحاً تعطُّشُ ذاك الكيان إلى سفك الدِّماء، كما كانت واضحةً مدلولات الدَّعم غير المحدود الذي لقيه من الدُّول الغربيَّة وفي طليعتها الولايات المتَّحدة الأميركية، والذي تجلى بإرسال حاملات طَّائرات وغواصات، نَّوويَّة وغير نوويَّة، وأساطيل مدججة بالمسيّرات والصَّواريخ البالستيَّة البعيدة المدى، وأكثرها وضوحاً كان الدَّعم المعنوي الذي تمثَّلَ بتصريحاتِ مُعظم المسؤولين الغربيين وفي مقدِّمتهم الرئيس الأميركي «جو بايدن» ووزير خارجيَّته «أنطوني بلنكن»، واللذان لم يخفيا انحيازهما الكلي للكيان العنصري، ولم يألوا جُهداً إلّا وبذلاه للتَّسويق للمُخطَّطِ الإسرائيلي القاضي بتهجير سُكّان غزَّة الفلسطينيين خارج وطنهم وأراضيهم، كما تعاموا عن كل المجازر التي ارتكبتها آلة الحرب الإسرائيليَّةِ المزوّدة بأحدثِ الأسلحة الأميركيَّة، وأنكروا وما زالوا يُنكرون ارتكاب إسرائيل لجريمة إبادة جماعيَّة ضدَّ الشَّعب الفلسطيني، وليس بخافٍ أيضاً أن كل المبادرات الغربيَّة التي حملها الموفدون الغربيون الأميركيون والأوروبيون إلى المسؤولين في لبنان وغيره من الدُّول العربيَّة كانت تلبيةً لرغباتٍ إسرائيلية.

ويبدو من الواضخ أيضاً أنه لم يكن بمُستطاع الكيان الإسرائيلي الإستمرار في هذه الحرب لفترة ثلاثة أشهر وما يزيد لولا الدَّعم الغربي المشار إليه، وأن ما يُعلَن عن خِلافات في وجهات النَّظر ما بين بعض المسؤولين الإسرائيليين والقادة الغربيين حول الإطار العام للحرب ما هو إلَّا مناوراتٌ تضليليَّة تهدف إلى امتصاص النَّقمة على ما يرتكب من مجازر ومنح العدو الإسرائيلي المزيد من الوقت لاستكمال مخطَّطه وبلوغ الأهداف الأساسيَّةِ التي يسعى إلى تحقيقها، ومن ضمنها إطلاق سراح الأسرى وإنزال أكبر قدر من الخسائر البشريَّة لدى أهالي غزَّة، وتقويض كل مقومات الحياة في القطاع، والقضاء على القدرة القتاليَّة لحركة حماس…
أستشعر القادة الإسرائيليون خطورة عمليَّة طوفان الأقصى على مُستقبل كيانهم، وظنوا بادئ الأمر أنهم أمام مواجهةٍ مفتوحة وشاملة، لذا كانت أولى خطواتهم الإستنجاد بحليفتهم الأول «أميركا» ومن بعدها الغرب السَّائر خلفها، ونجحوا إلى حدٍّ كبير في حشدِ معظمِ الدُّول الغربيَّة خلفهم في هذه المواجه واستدرجوهم إلى ساحاتها، الأمر الذي دفع بمحور الممانعة للإحجام عن الإنخراط في مواجهة كبرى، الأمر الذي راقَ لإسرائيل فتفرَّغت لتَنفيذ مُخطَّطها المُعد مُسبقاً لغزَّة والتَّنكيل بالأبرياء وتلقين الشَّعب الفلسطيني درساً لا يُنسى، وتجاوزت بارتكاباتها كل الحدود والضَّوابط القانونية والأخلاقيَّة والانسانيَّة، ولم تُعِر اهتماماً للإستنكارات العربيَّة ولا لمناشدات المنظَّمات الدَّوليَّة، ولا لمواقف الدُّول التي ناصرت المظلوم على الظَّالم.

نعم لقد تمكَّنت إسرائيل من الاستفرادِ بغزَّة وهي على وشك النَّجاحِ في تهجير أهلها، مُستندةً إلى الغطاءُ الغربي لارتكاباتها الشَّنيعة، ومُستفيدةً من حالة التَّفكك العربي، واللعب على التَّناقُضات العربيَّة – الفارسيَّة، ولم تحُدَّ من وحشيَّتها المناوشات على الحدود الفلسطينيَّة – اللبنانية، ولا الصَّواريخ التي أطلقت وتطلق على بعض المعسكرات الأميركيَّة في العراق وسوريا، ولا الصَّواريخ اليمنيَّة التي لم يصل معظمها، وإن كان قد أزعجها اعتراض الحوثيين لبعضِ سُفنها والسُّفنِ القادِمَة إلى موانئها المُطلَّة على البحر الأحمر.
إسرائيل اليوم، وبعد ثلاثة أشهر من التَّنكيل بقاع غزَّة لم يبقَ في قائمةِ استهدافاتها ما لم تدمِّره، أضحت جاهزةً لخوضِ غمارِ الحربٍ على جبهتها الشَّماليَّة «أي مع المقاومة في لبنان»، وهي ترى الظَّرف مؤاتٍ لكي تفعل في لبنان ما فعلته في غزَّة؛ والمعوِّقُ الوحيد، يتمثَّلُ في عدم تناسًبِ التَّوقيت بالنِّسبةِ للإدارة الأميركيَّة الحاليَّة، كون الأخيرة ترغبُ في التَّفرغ لخوض الانتخابات الرئاسيَّة في أميركا، والتي ورَّطتها حربُ غزَّة في مناوشاتٍ مع الحوثيين، «عدوٍّ ضعيف الإمكانات العسكريَّة ولكنه رغم ذلك يصعبُ ترويضه بحكم موقعه الجغرافي المشرف على مضائق استراتيجيَّة، ولتلقيه دعم عسكري وتقني واستخباراتي من السُّلطات الإيرانيَّة بما يكفي لمناوءة العدو أو عدم تركه يرتاح.

إسرائيل تحسن اللعب على التَّناقضات، واقتناص الفرص، فهي تَعلم جيِّدًا مدى التَّعاطف الغربي معها، كما أنها، على نقيض الإدارة الأميركية الحاليَّة، ترى في الانتخابات الأميركيَّة فرصة لابتزاز الطرفين المتنافسين، بالإيحاء أن الجماعات الصهيونية ستُسخِّرُ جُهودَها وأصواتها لصالح من يوفر أكبر دعم لإسرائيل، وهي تعي جيِّدًا أن الإدارةَ الأميركية أيَّا تكن لن تترُكَها وحيدةً في حال انغمست بحرب مع حزب الله في لبنان ولو تطورَت إلى مجابهة شاملة مع إيران وأذرعها، وهي ترى الفرصةَ مؤاتيةً للإنقضاض على عدوها المتربِّصِ بها على امتداد خاصرتها الشِّماليَّة، كما لتعزيزِ موقِعها في عمليَّة التَّفاوض التي ستجري حُكمًا بعد وقف أعمال الحرب في غزَّة. لهذه الأسباب ينبغي على اللبنانيين التَّحوط لمجازفة إسرائيل بحرب مُباغتةٍ على الجبهةِ اللبنانيَّة فور انتهائها من استعادةِ أسراها لدى حماس (بالتَّفاوض أم بعمليَّاتٍ عسكريَّة).
إسرائيل تهيئ لهذه الحرب وكأنها واقعة في أيَّةِ لحظة، وهي لا تنفك تضرب خطوط إمداد المقاومة في لبنان، باستهداف مطاري دمشق وحلب، كما باستهداف كبار القادة الفاعلين في الحرس الثوري وحزب الله، حيث تسنح لها الفرصة سواء في إيران أو العراق أو سوريا أو لبنان، بدءاً بقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، مرورًا برضى موسوي وقائد استخبارات فيلق القدس ونائبه وغيرهم من القادة الميدانيين في لبنان سواء تمكنوا منهم على الخطوط الأماميَّة للجبهة كوسام الطويل، أم في خُطوطِ الدَّعم اللوجِستي الخلفيَّة، كاستهداف قائد القِطاع الأوسط، وقيل أن المستهدف مؤخَّراً هو المسؤول عن أمن كبار المسؤولين في الحزب، وهذا الحدث بحدِّ ذاته ينطوي على مؤشِّر خطير، يُستشف منه انكشاف تحرًّكات كبار قادة الحزب، ويجعلهم عُرضةً للإستهداف في أيَّة لحظة.
يبدو أن العدو الإسرائيلي رغم الإخفاقات الإستخباراتيَّة في غزَّة وفشله في كسف أماكن إيواء أسراه، قد استعادَ زمام المُبادرةِ، مستفيدًا من المعلوماتِ التي تزوِّدُه بها القِوى العسكريَّة الغربيَّة المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط وأجهزة مخابراتها بما لديها من وسائل تَجسسيَّة، وأظهرَ تفوُّقًا استخباراتيًّا ميدانيًّا، وهذا ما يستشفُّ من عمليَّات الاغتيال النوعيَّة التي نفَّذها لغاية الآن، وتتسبَّبُ بإرباكٍ للطرف الآخر قبل أن تندلع الحرب. ومن هذا المنطلق نحي الموقف الواعي والمسؤول لدولة الرئيس نبيه بري الذي أطلقه عبر صحيفة الجمهوريَّة، والذي نبَّه فيه لمغبَّة السُّقوط في ما ترمي إليه إسرائيل من جر لبنان إلى حرب في ظِلِّ ظرفٍ مؤاتٍ لها؛ علمًا أن دولته لا يقول ذلك من باب الضَّعف أو التَّخاذُل لا سمح الله، إنما من باب التَّعقُّل والحِكمة.
ونخلصُ إلى التَّأكيد على ما سبق وأكَّدنا عليه مراراً وتكرارًا، بضرورة التَّحوط من غدر الكيان الإسرائيلي، والاستعداد لكل الاحتمالات، وبذل ما يلزم من جهد لسحب الذرائع وتفويت الفرص عليه؛ ولكن الأهم من كل ذلك، ينبغي وقف كل السِّجالات السياسيَّة الدَّائرة حول جدوى الانخراط في حرب، لأن خيارَ المواجهِ قد حُسِم، والجدال حوله اليوم لا يخدمُ سوى العدو؛ أما المطلوب فواضحٌ «الوقوف صفًّا واحدًا في وجه العدو بعيدًا عن لغات التَّخوين، وترحيل الخلافاتِ الدَّاخِليَّة لما بعد وَقفِ الأعمال الحربِيَّة، والمُباشرةِ فورًا بتَحصين الوضعِ الدَّاخلي، من خلال ترميم مؤسَّساتنا الدستوريَّة، ووضع عجلات الدَّولة على سكتي التَّعافي والنُّهوض.