IMLebanon

غياب الأفق السياسي  

 

 

دخلت حرب غزّة شهرها الرابع. لا تزال الحاجة، أقلّه من ناحية إنسانية، إلى أفق سياسي لهذه الحرب التي توسّعت من دون أن تتوسّع والتي ضحيتها الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لوحشية إسرائيلية من نوع لا سابق له. لا يمكن لأي بلد في هذا العالم أو أي تنظيم سياسي أو عسكري خوض حرب من دون أفق سياسي. هذا ما افتقدته «حماس» عندما بادرت إلى شنّ «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول – أكتوبر الماضي. هذا ما تفتقده إسرائيل أيضا، عبر الإستمرار في حربها الوحشيّة على الشعب الفلسطيني، في ظل حكومة بنيامين نتانياهو التي تضم مجموعة لا بأس بها من الموتورين الذين لديهم علاقة بكلّ شيء باستثناء السياسة.

 

لا وجود لما يسمح بالكلام عن مرحلة ما بعد حرب غزّة من دون تسوية ما تأخذ في الإعتبار أنّ ليس في الإمكان إلغاء الشعب الفلسطيني الموجود على أرض فلسطين من جهة وعلى الخريطة السياسيّة للشرق الأوسط من جهة أخرى. بكلام أوضح، يستحيل إزالة شعب من الوجود ما دام هذا الشعب يمتلك قدرة غير محدودة تسمح له بمتابعة المقاومة. أكثر من ذلك، توجد هويّة وطنيّة تجمع بين أبناء هذا الشعب في فلسطين وخارج فلسطين. رسخ هذه الهوية رجل إسمه ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني. لات يمكن تجاوز هذا الواقع على الرغم من كلّ الأخطاء التي ارتكبها «أبو عمّار» في الأردن ولبنان وفي حق الكويت في مرحلة ما…

 

بعد ما يزيد على مئة يوم على حرب غزّة، وبعد الضربة التي تلقتها الدولة العبريّة وهي الأولى من نوعها منذ ثلاثة أرباع القرن، باتت الكرة في الملعب الإسرائيلي. الأكيد أن ليس في استطاعة إسرائيل القيام بأي خطوة في الإتجاه الصحيح من دون الإعتراف بالثابت الذي اسمه الشعب الفلسطيني. هل تستطيع إسرائيل القيام بالتغيير المطلوب، داخليا، مع ما يعنيه ذلك من تخلّص من فكرة الإستمرار في فرض الاحتلال؟

 

الأكيد أنّ مثل هذا التغيير الداخلي في إسرائيل قادم لا محالة. هل يقتصر على الأشخاص أم يتجاوز ذلك إلى الفكر السياسي بعيدا عن حلم ضمّ الضفّة الغربيّة والقدس؟ من دون التغيير يستحيل الخروج من المأزق الذي ولد من رحم «طوفان الأقصى». هذا المأزق إسرائيلي قبل أي شيء آخر. لم يؤد «طوفان الأقصى» إلي تعرية المؤسسة العسكريّة والأمنية الإسرائيلية فحسب، بل أدّى عمليا إلى كشف غياب الخيارات السياسية بعدما تقدّم الإستيطان على الأمن. ليست النكسة الأمنية التي تعرّضت لها إسرائيل، وكلمة نكسة قد لا تكون في محلها بمقدار ما أنّ الأمر يتعلّق بكارثة حقيقيّة، سوى نتيجة لجعل الإستيطان يتقدّم على الأمن إن في غزّة أو في الضفّة الغربيّة والقدس.

 

يصعب تجاهل أنّ التغيير في ضوء حرب غزّة وما ستؤول إليه  لا يمكن أن يقتصر على إسرائيل. ثمّة حاجة إلى مراجعة فلسطينية بعدما تبيّن أن السلطة الوطنيّة في حال ترهّل ليس بعده ترهّل. لا وجود لأي دور لهذه السلطة التي لا حول لها ولا قوّة. اكتفت السلطة المقيمة في رام الله بالتفرّج، منذ منتصف العام 2007،  على التحولات التي شهدها القطاع حيث أقامت «حماس» ما يشبه «امارة إسلاميّة» بعدما كانت لديها خيارات أخرى.

 

ستسعى إسرائيل إلى الإستفادة إلى ما لا نهاية من وضع إدارة جو بايدن، وهي إدارة ولدت في الأصل حائرة وزادت حيرتها مع إقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركيّة في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل.

 

كلّما مرّ يوم تزداد حرب غزّة تعقيدا بعدما اختارت حكومة نتانياهو طريق الحرب التي لا تبدو قادرة على حسمها سوى عن طريق تدمير القطاع على من فيه وتهجير أهله من بيوتهم.

 

ليست حرب غزّة وحدها التي تزداد تعقيدا. الوضع في المنطقة كلّها بات على كفّ عفريت مع ما يشهده البحر الأحمر من تطورات بفضل تلك الأداة الإيرانيّة المسماة بـ»الحوثيين» وبعدما قرر «حزب الله» فتح جبهة جنوب لبنان من دون فتحها بمواصفات إيرانيّة.

 

ما يمكن أن يأخذ المنطقة إلى مكان آخر أكثر سوءا النتائج المترتبة على زج «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران بالعراق في لعبة الإستفادة إلى أبعد حدود من حرب غزّة. يضاف إلى ذلك، قرار إسرائيل الدخول في لعبة من نوع آخر هي لعبة الإغتيالات والعمليات الخاصة مثل عملية إغتيال الحمساوي صالح العاروري وقبله الضابط الكبير في «الحرس الثوري» الإيراني رضي الموسوي. إغتيل العاروري في معقل «حزب الله» في الضاحية الجنوبيّة لبيروت واغتيل موسوي في إحدى ضواحي دمشق قبل أيام قليلة من تفجير كرمان في إيران في الذكرى الرابعة لإغتيال قاسم سليماني…

 

غيّرت حرب غزّة المنطقة كلّها. ليس مستبعدا أن تغيّر العالم، خصوصا بعدما خفّ الضغط الأميركي والأوروبي على فلاديمير بوتين في أوكرانيا التي يحتل الجيش الروسي جزءا من أراضيها. ما لم يتغيّر يتمثل في الثابت الوحيد، أي وجود الشعب الفلسطيني الذي لا مفرّ من إنصافه في نهاية المطاف بدل تهجيره من أرضه. لن يكون هذا التهجير ممكنا، خصوصا بعدما تبيّن أن تصفية القضيّة الفلسطينيّة على حساب مصر أو الأردن ليس سوى أوهام ستأتي بالمآسي بغض النظر عمّا إذا كان هناك أي مستقبل سياسي لـ»حماس» وتوابعها من نوع «الجهاد الإسلامي» وما شابه ذلك.

 

راهن اليمين الإسرائيلي طويلا على «حماس» لضرب المشروع الوطني الفلسطيني. ارتدّ هذا الرهان على الدولة العبريّة التي صار مصيرها في مهب الريح. هل تذهب إسرائيل بعد خيبة الرهان على «حماس» إلى رهان من نوع آخر، أي إلى الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني بدل الإستمرار في الدوران في حلقة مقفلة مع ما يعنيه ذلك من حروب أخرى تستجلبها حرب غزّة؟