على هامش التطورات في اليوم الحادي عشر بعد المئة للعدوان على غزة، تناقضت المواقف الاقليمية والدولية من وجود قرار بخفض التصعيد في القطاع ومعها التهديدات بالحرب على لبنان من عدمها، كما على بقية الجبهات المحدثة في اليمن وسوريا والعراق.
وترافقت هذه المواقف مع حديث غامض عن دخول العدوان “المرحلة الثالثة” من دون أي توضيح اسرائيلي او اميركي حول توقيتها وشكلها ومضمونها، وهو ما أطلق العنان أمام مجموعة من السيناريوهات، وهذه عيّنة منها.
غامض عن دخول العدوان “المرحلة الثالثة” من دون أي توضيح اسرائيلي او اميركي حول توقيتها وشكلها ومضمونها وهو ما فتح العنان امام مجموعة من السيناريوهات وهذه عينة منها.
لم يتمكن مراقبون كثر من إجراء قراءة للتوقيت الذي يمكن ان يحتسب عند الحديث عن “المرحلة الثالثة” التي دخلتها حرب غزة، وإن اعتبر البعض انّ المرحلة الاولى انتهت بالتدخل البري للجيش الاسرائيلي في السابع والعشرين من تشرين الأول في قطاع غزة بعد مسلسل العمليات العسكرية التي تلت عملية “طوفان الاقصى” في غلاف غزة وشمولها عمق المناطق الفلسطينية المحتلة الذي امتد نحو 22 كيلومتراً إن قيسَت بالنقاط الاخيرة من الكيبوتزات والمستوطنات الإسرائيلية التي اقتحمتها حركة “حماس” في ساعات قليلة تلت الساعة صفر مع بزوغ فجر 7 تشرين الاول الماضي، وحتى ساعات العصر الاولى التي بَدا فيها الرد الاسرائيلي بعد ساعات من الارباك التي عاشتها القيادة الإسرائيلية السياسية والحكومية والعسكرية والامنية التي سبقت لحظة استيعاب ما حصل في ذلك اليوم.
على هذه الخلفيات، تعددت القراءات حول “تاريخ المرحلة الثالثة” التي تحدثت عنها الادارة الاميركية والقيادة الاسرائيلية قبل ايام قليلة تَلت عملية إعادة تَموضع للجيش الاسرائيلي في القطاع ومحيطه، من دون ان تقدّم أيّ منهما حتى الساعة ماهية هذه المرحلة والغاية منها وأهدافها والآلية الجديدة التي ستعتمد وعما اذا كان هناك ما يستأهِل الحديث عن مرحلة ثالثة تَلت مرحلتين ما زالت الالغاز تحوط بهما، خصوصا عند احتساب النتائج المعلنة التي تحدث عنها الاسرائيليون ومعهم مجموعة الحلفاء الذين توسّعوا في الحديث عن النتائج المطلوبة من العلميات العسكرية، خاصّة لجهة القضاء على “حماس” وقتل ومحاسبة قيادتها والتي لم يتحقق منها شيء حتى هذه اللحظة.
ومن هنا توسعت رقعة السيناريوهات التي تتحدث عن هذه المرحلة خصوصاً عندما واكبت الديبلوماسية الأميركية والدولية الحديث عنها. فتوزّع المسؤولون الكبار في مختلف عواصم العالم، وخصّص وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن جولته الرابعة في المنطقة منذ بدء العمليات العسكرية ومعها جولاته المكوكية بين تل ابيب ورام الله وانقرة والقاهرة والدوحة والرياض، فيما توزّع الوزراء الفرنسيون والبريطانيون والالمان ومعهم وزراء الدفاع الأميركي والفرنسي والبريطاني وموفدي الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي على التحضير لما يسمّونه “لجم التصعيد” ومنع “توسع الحرب” وصولاً الى حماية قوات الامم المتحدة “اليونيفيل” العاملة في جنوب لبنان ومنشآتها بعدما تعرضت لأكثر من 25 اعتداء مباشراً واصابة 4 من جنودها، عدا عن الأضرار التي لحقت بالمقر العالم لهذه القوات ومواقعها في مناطق عدة من الجنوب، وكذلك بالنسبة الى مواقع الجيش اللبناني بعدما استشهد احد العسكريين وأصيب آخرون بجروح مختلفة.
وإن توقّفَ المراقبون الديبلوماسيون أمام ما سمّاه الاميركيون قبل الاسرائيليين “المرحلة الثالثة”فإنّ الحيرة تَنتابهم. فقد تلازمت هذه الصفة للمرحلة بالقرار الذي اتخذته حكومة الحرب الإسرائيلية بسحب عدد من الألوية العسكرية من عمق القطاع الى محيطه بعد تسريح وحدات من الإحتياط قدّرت بما يفيض على 70 ألف عسكري من الضباط والرتباء والجنود من مختلف الاختصاصات والاسلحة، سواء من اجل الراحة او للعودة الى مصانعهم ومعاملهم ومؤسساتهم الصناعية التي أقفلت فور وقوع الحرب واستدعاء ما يُقارب 380 ألف ضابط وعسكري من مختلف الاسلحة.
وعلى رغم هذا التوقيت الذي تزامنَ مع اعادة انتشار وحدات الجيش وتموضعها الجديد بين الضفة الغربية والجبهة الشمالية والجولان المحتل، فإنه لم يُعلن بنحو واضح كيف ستكون المرحلة المقبلة. وإن كانت بعض الملامح قد أوحَت بالمهمة الجديدة لبعض الوقت فإن المواقف المتناقضة عطّلت كثيراً من التفسيرات الاولية واطلقت مجموعة اخرى منها تزيد عن نسبة الغموض ممّا هو مطلوب منها وفق القواعد والمؤشرات الآتية:
– قيل أولاً انّ العمليات العسكرية انتهت في الجزء الشمالي من القطاع قبل ان يبرز انّ العمليات العسكرية ما زالت مستمرة في بيت حانون وبيت لهيا ومحيطهما كما في المناطق الحدودية الشمالية، بعدما حصلت مواجهات في مناطق قال الجيش إنه “طَهّرها” ولم تعد هناك قوى مقاتلة لا من “حماس” ولا من المنظمات الحليفة الاخرى عَدا عن بقائها مناطق آمنة بفعل انطلاق الصواريخ منها في اتجاه غلاف غزة والمدن الاسرائيلية العميقة.
– وقيل لاحقاً على ألسنة المسؤولين الاميركيين، وتحديداً على لسان الموفد الاميركي عاموس هوكشتاين الذي زار بيروت قبل أيام، ان المطلوب ترتيبات على الحدود الجنوبية لمواكبة “المرحلة الثالثة” من العمليات في القطاع من دون ان يقدّم أي تصوّر واضح. وإن تحدث عن “تقليص” العمليات الحربية في القطاع فإنّ الغارات ما زالت مستمرة مستهدفة المدنيين ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة ومنظماتها المعنية باللاجئين. وعندما طلب منه المسؤولون اللبنانيون توصيفا واضحا، طلب مهلة اضافية لتوفيره في الايام المقبلة.
– وإن قيل انّ هذه المرحلة تقضي بالعمل على تسهيل تبادل الاسرى لدى حماس ونظيراتها بالمعتقلين في السجون الاسرائيلية، فإنّ كل المحاولات الجارية تعثّرت، ما عدا تلك التي وَفّرت الادوية للاسرى الاسرائيليين لدى “حماس” ومزيداً من المساعدات الإنسانية والطبية لسكان القطاع.
– وان قيل انّ هناك مهلاً وضعتها الادارة الاميركية لوقف العمليات العسكرية ومنها من توقّع ان تكون نهاية الشهر الجاري آخر المهل المسموح بها، فإنّ الحديث الذي نُسِب الى القادة العسكريين الكبار توقع استمرارها لفترات غير محددة، وهو ما أشارت اليه “هيئة البث الإسرائيلية” التي نقلت أمس بعد اجتماع مُغلق لمجلس الوزراء ان “المرحلة الثالثة” من حرب غزة ستستغرق نحو 6 أشهر على الأقل.
واستناداً الى ما سبق من ملاحظات فإنّ هناك مَن تحدث عن أن المرحلة الثالثة انطلقت في اللحظة التي طلبَ فيها رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو من جهاز “الموساد” التعاون مع بقية الاجهزة الاستخبارية لملاحقة قادة حماس أينما وجدوا في العالم. وعندما اغتيل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” الشيخ صالح العاروري بالتوازي مع ملاحقة قادة القطاعات الجنوبية في “حزب الله”، اعتقدَ البعض أنها المرحلة الجديدة البديلة من أي عمل آخر في قلب القطاع، ولكنّ استمرارها بالزخم القديم أسقطَ هذه النظرية ولم يبرز سوى ان الاغتيالات التي أدرجت على لائحة “العمل الأمني” لن تعوق مواصلة “العمل العسكري” بالطريقة القائمة منذ اللحظة الاولى للتوغّل البري، بدليل ما تشهده مدن جنوب القطاع ومعها تزخيم الاقتحامات في الضفة الغربية والإمعان في قتل المدنيين واعتقالهم.
وبناءً على ما تقدم، يبدو واضحاً ان ليس من السهل توصيف المرحلة الثالثة طالما انه لن يكون هناك أيّ مسعى جدي حتى اليوم للتوصّل الى وقف للنار او مجموعة جديدة من “الهدن الإنسانية”، وأن الأفق السياسي مُقفل على ما هو مطروح من مخارج وسط إصرار اسرائيل على استدراج الجميع من حلفاء وخصوم الى ما يؤدي لتوسيع رقعة الحرب لتوريط الولايات المتحدة وحلفائها فيها ما لم تنجح المعارضة الاسرائيلية في إسقاط حكومة الحرب لتتسلّم حكومة أقل تطرّفاً مسؤولية ادارة المرحلة المقبلة سواء سُمّيت ثالثة أو رابعة فلا طعم ولا قيمة لأرقام في مثل ما يجري من قتل وتدمير.