تصوّر الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن اثناء زيارتهما الاولى لاسرائيل بعد هجوم حماس على جنوبي اسرائيل، وما اسفر عنه من خسائر صادمة، بأن الدعم غير المحدود لاسرائيل سيفسح في المجال لتقصير فترة الحرب على غزة، بحيث لا تمتد لاكثر من فترة شهرين، وبأن الدعم الاميركي غير المحدود او المسبوق، سيعطي للقيادة الاميركية الثقة والمصداقية لدى القيادات السياسية والعسكرية الاسرائيلية، وبالتالي يفتح الباب لانهاء الحرب بأقل الخسائر السياسية والدبلوماسية للطرفين الاميركي والاسرائيلي على حد سواء.
لكن يبدو بأنه قد فات الادارة الاميركية بأن الجيش الاسرائيلي لن يستطيع تحقيق الاهداف التي حددها نتنياهو لتحقيق النصر الذي يسعى اليه، من خلال القضاء على حماس كتنظيم عسكري وسياسي، بالاضافة الى تحرير «الرهائن» الاسرائيليين الموجودين لدى حماس.
اقتنعت ادارة بايدن في شهر كانون اول الماضي بأن الحرب قد استنفدت اغراضها، وابلغت اسرائيل بذلك، وبعد نقاش وسجال طويلين، اوفدت الادارة الاميركية وزير دفاعها لويد اوستن مع رئيس اركان جيشها تشارلز براون الى اسرائيل في 18 كانون اول للبحث مع القيادة الاسرائيلية في جدول زمني لوقف الحرب، يبدأ بوقف الغارات الجوية، وعمليات الهجوم البري الواسعة، والاستمرار فقط في شن عمليات «جراحية» محدودة، تستمر حتى مطلع عام 2024، وقبلت الادارة الاميركية لاحقاً بتمديد المهلة لشهر كامل، مع اشتراط ابداء تل ابيب الرغبة في خفض عدد القتلى المدنيين وتخفيف معاناة السكان الغزاويين، من خلال تسهيل دخول المساعدات الضرورية لحياتهم اليومية، لكن عادت اسرائيل وحنثت بوعودها، فاطلقت عملية واسعة في خان يونس بحجة توافر معلومات لديها عن وجود يحيى السنوار مع «الرهائن» في انفاق المدينة، وبانه لا بد من عدم اضاعة الفرصة لاعتقاله وتحرير الاسرى. ووافقت واشنطن لتمديد فترة الحرب ولكن امتدت الحرب لفترة خمسة اشهر، دون اعلان اسرائيل النية لوقفها، بل فقد زادت من استهدافها للمدنيين، وكانت مجزرة «دوار النابلسي» والتي قتل فيها 118 مدنياً وما يقارب 1000 جريح، والتي اتبعتها قبل يومين بمجزرة دوار الكويت، والتي اودت بحياة العشرات من المدنيين الباحثين عن الطحين لاطعام عائلاتهم، وهكذا تأكد بأن الخطة الاسرائيلية الجديدة باتت تعتمد سلاح تجويع السكان لاقناع قادة حماس بالاستسلام، او لتحقيق هجرة جماعية للغزاويين باتجاه سيناء.
بدأت الولايات المتحدة ومعها اوروبا ومعظم الدول الاعضاء، في الامم المتحدة باستبعاد حقيقة الخطة الاسرائيلية بعدما اثبتت الصور والاخبار الواردة من غزة بأن اصرار اسرائيل على تمديد فترة الحرب يصب في خدمة هدفين: ارتكاب المزيد من اعمال الابادة الجماعية، بالاضافة الى تجويع السكان بقصد تهجيرهم قسرياً، وترافقت العمليات العسكرية الاسرائيلية في رفضها لكل الدعوات الدولية لمراعاة قواعد الحرب، لا بل هي امعنت في تأكيد هدفها لاعادة احتلال القطاع والبقاء فيه كقوة احتلال مع دعوات واضحة من وزراء في الحكومة لعودة المستعمرات الاسرائيلية التي كانت موجودة قبل الانسحاب، في الوقت الذي حاولت فيه واشنطن والعواصم الاوروبية احتضانها اسرائيل في حربها الظالمة ضد المدنيين، خوفاً من نتائج صدامها مع نتنياهو ومع وزراء اليمين المتطرف في حكومته، وخصوصاً ايتمار بن غفير، فقد ذهب نتنياهو الى حد المفاخرة بالاختلاف مع ادارة بايدن، مستعيداً من تاريخ اسرائيل اسم كل من دافيد بن غوريون وخلافه مع واشنطن حول مفاعل «ديمونا» وليفي اشكول لقراره بشن حرب 1967، واغفل عن قصد اسم اسحاق شامير الذي عرقل مباحثات السلام مع الفلسطينيين، والذي اسقطه قرار الرئيس بوش الاب بوقف المساعدات، فسقط شامير ليحل مكانه بعد انتخابات مبكرة اسحق رابين.
ويرى عدد من المراقبين اليوم بأن دعوة الاميركيين للوزير بيني غانتس لزيارة واشنطن واجتماعه بنائبه الرئيس كامالا هاريس ومسؤولي البيت الابيض تكراراً لعملية اسقاط شامير من قبل ادارة بوش الاب.
يبدو بوضوح بأن ادارة بايدن قد وصلت الى قناعة بأنه لم يعد من المنطقي والجائز ان تستمر في دعمها غير المشروط لسياسة نتنياهو في غزة، وذلك بعدما اقتنعت من جهة بأن الدول الغربية، سواء الرأي العام او القيادات السياسية قد تخلت عن دعمها لاسرائيل، بل بدأت تدين اعمالها علناً، متهمة اياها بارتكاب اعمال ابادة وتجويع الناس.
ويبدو ايضاً بأن ادارة بايدن قد شعرت بالارتدادات السلبية لموقفها الداعم لنتنياهو، وذلك على ضوء ردات فعل حلفائها بين الدول العربية والاسلامية، وخصوصاً على اثر استعمالها لحق النقض لقرار وقف النار الذي تقدمت به الجزائر في مجلس الامن، بعدما نال 13 صوتاً مع امتناع بريطانيا عن التصويت. يضاف الى ذلك الصدمة التي شعرت بها حملة بايدن لعملية اعادة انتخابه لولاية ثانية خلال الانتخابات الاولية في ولاية ميتشغان، حيث ظهر بأن هناك اكثر من مئة الف نائب ديمقراطي قد امتنعوا عن التصويت لصالح بايدن، ووقوفهم بالتالي على الحياد وعدم المشاركة بالتصويت.
ان التطور الجديد في موقف الادارة الاميركية قد جاء على لسان نائبة الرئيس كاملا هاريس، واثناء زيارة الرئيس غانتس، حيث دعت لوقف اطلاق النار في غزة. وطلبت وقف النار بعد توصل الادارة الى قناعة بأن الحرب الاسرائيلية على غزة قد استنفدت جميع اغراضها واهدافها، وبعدما ابلغت اسرائيل ذلك قبل شهرين.
جاءت دعوة نائبة الرئيس لوقف اطلاق النار في غزة متأخرة بضعة اشهر، ولكن لا تشكل هذه الدعوة المتأخرة المؤشر الوحيد على مدى ضيق الادارة الاميركية، ذرعاً بسياسة التجويع التي تتبعها حكومة نتنياهو وذلك بالرغم من الحاح واشنطن على ضرورة زيادة عدد الشاحنات التي تدخلها الرقابة الاسرائيلية الى غزة عبر حواجز التفتيش على الممر الالزامي الذي تسيطر عليه. ادركت الادارة والرئيس بايدن شخصياً بأن السياسة الاسرائيلية على المعابر تهدف الى تجويع الشعب في غزة، وهذا ما دفعها لاتخاذ قرار لإسقاط 38000 وجبة طعام من الجو من اجل تخفيف اثار المجاعة التي باتت تطاول معظم السكان.
واعلن الرئيس بايدن عن الاعداد لعملية انزال جوي ثانية في القريب العاجل. وتبدي الادارة الاميركية والعقلاء في اسرائيل امتعاضاً تجاه سياسة الحكومة التي اجبرت الولايات المتحدة على ايصال مساعداتها بهذه الطريقة المهينة لنفوذها مع اسرائيل وتجاه حلفائها في المنطقة. وجاء القرار الاميركي هذا كرد مباشر على المجزرة التي ارتكبتها اسرائيل على دوار النابلسي ضد الجياع من الغزاويين.
في هذا الوقت تحاول الحكومة الاسرائيلية التنصل من مسؤوليتها عن المجاعة الحاصلة فعلياً، والصاقها بمؤسسات الامم المتحدة، لكن سرعان ما تصدى الرئيس بايدن شخصياً للتهرب الاسرائيلي من المسؤولية حيث قال:«إننا نكرر دعوتنا للحكومة الاسرائيلية لتسهيل دخول عدد اكبر من شاحنات المساعدات الى القطاع»، رافضاً كل الحجج الاسرائيلية للتقصير الحاصل، قائلاً: «ليس هناك من عذر مقبول لعدم دخول ما يكفي من المساعدات». ويبدو بأن بايدن قد ادرك بأن الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا امام محكمة العدل الدولية ما هي سوى نتيجة لعمل الحكومة الاسرائيلية لإبادة الفلسطينيين وتجويعهم.
في رأينا تدرك الادارة الاميركية منذ شهر كانون اول الماضي، وذلك انطلاقاً من تجاربها في فيتنام وافغانستان والعراق، بأن اقصى ما يمكن ان تحققه اسرائيل جراء اطالة مدة الحرب لأشهر مقبلة، لن يتعدى بعض المكاسب التكتيكية على الارض، وهي تفتح بذلك المجال لحماس لكسب الحرب على الصعيد الاستراتيجي، وذلك انطلاقاً من تبدّل الموقف الدولي من الحرب وانحيازه الى جانب حماس، والذي بدأ للتحول الى عملية متسارعة في ظل تبدل الموقف الاميركي متنامي ضغوط الدول العربية والاسلامية على الغرب والمجتمع الدولي على حد سواء.