حرَّكت مشاهد مأساة الحرب في غزة، الرأي العام العالمي تضامناً مع أطفالها ونسائها، الذين يدفعون الأثمان الأغلى لهذه الحرب من دمائهم البريئة. لكن أصوات التظاهرات الشاجبة في شوارع عواصم العالم، لا تُخرِسُ ضجيج المدافع وسياسة المصالح؛ لتستمر المأساة بحثاً عن سلام صعب.
في كل المعاهد والكليات العسكرية الدولية التي تلقِّنُ طلابها علم الحروب وقوانينها، تحتلُّ الفقرة التي تتناول الوضع عن العدو، المقام الأول في كلِّ أمرٍ للعمليات العسكرية. هذه الفقرة تتضمن تقييم إمكانات العدو العسكرية، ردّات فعله، حلفاءه، مصالحه… فهل قيَّمت «حماس»، قبل بدء عمليتها، ردات فعل إسرائيل على عملية بحجم 7 تشرين الأول؟ لا بل هل كانت «حماس» تخطِّطُ لاحتجاز هذا العدد الكبير من الرهائن؟ وهل كانت تصرفات مقاتليها على الأرض متناسبة مع قوانين الحروب؟ وأخيراً هل كانت تنتظر دعماً من حلفائها أكثر مما نشهده اليوم صوريَّاً بدءاً بإيران؟ يبدو أنّ «حماس» فوجئت بكل هذه البنود التي تلعب دوراً أساسيّاً في مسار هذه الحرب.
بالتأكيد لم تتوقع «حماس» حجم ردّ الفعل الإسرائيلي الذي نراه منذ أشهرٍ على هذه العملية؛ بدليل أنّها جعلت من الهدنة هدفاً أساسيّاً ومباشراً لها بعد تنفيذ العملية، بحيث تسمح لها هذه الهدنة بهضم عملية الرهائن واستغلالها للمساومة وتحقيق أهدافها؛ وهذا خطأ استراتيجي لا يعفيها من المشاركة في مسؤولية ما يحصل من مآسٍ فوق الأرض الغزاوية، لأنّها لم تتوقع حجم الردِّ الإسرائيلي، كما أنّها تجهل الاستراتيجية الكبرى لدولة إسرائيل، فبدت، أي «حماس»، كأنها تخوض حربها بالمدنيين.
الهُدن بين المتحاربين، هي عبارة عن اتِّفاقات إنسانية، لتحويلها إمّا إلى سلامٍ دائم، أو محطةٍ لاستئناف العمليات الحربية بزخمٍ أقوى، لتحقيق الأهداف الموضوعة لكلِّ فريق. في غزة لكلٍّ من الفريقين المتقاتلين شروطه الخاصة. فالشروط التي تطالب بها إسرائيل لتطبيق الهدنة، تشكل استحالة لـ»حماس» بحيث يصعب عليها الموافقة على بنودها؛ والشروط التي تطالب بها «حماس»، تشكل أيضاً استحالة مضادة أمام القيادة الإسرائيلية. «حماس» تطالب بانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع وفتح المعابر قبل إعطاء أي معلومات عن الرهائن؛ وإسرائيل تطالب بلائحة إسمية بالرهائن، والأوضاع الصحية لكل رهينة: مريض، حيّ، أو ميت، قبل البدء بالمفاوضات. الشرط الذي تضعه «حماس» هو بمثابة هزيمة لدولة إسرائيل، لأنّها لم تحقق هدفها الأول في استعادة الرهائن، أو قسم منهم، أو على الأقل معرفة أوضاعهم الصحية. والشرط الذي تضعه إسرائيل هو بمثابة إعلان الهزيمة لـ»حماس»، لأنه يجرِّدُها من نقطة القوة الوحيدة التي تمتلكها في غموض وضع الرهائن. وهكذا يصبح حلم كل من الفريقين كابوساً للآخر بسبب ضخامة حجم عملية 7 تشرين الأول وأضرارها غير المتوقعة من قبل منفذيها.
الحروب التي تحصلُ بين الجيوش، تُحترمُ فيها قوانين الحروب لناحية الأسرى: معرفة أسمائهم، تطبيبهم، زيارتهم من قبل المؤسسات الإنسانية، تأمين حاجاتهم، تبادل الرسائل، كما تُحترمُ فيها دور العبادة والمؤسسات الإنسانية… إلاّ إذا صدرت عن حرم هذه المؤسسات أعمال عسكرية. في حرب غزة لا تعامل «حماس» المحتجزين كأسرى حرب، هي تعاملهم كرهائن؛ ما يصنفها دوليّاً في خانة المنظمات الإرهابية. بالمقابل لم توفر إسرائيل بعض المؤسسات الإنسانية والطبية في أعمالها العسكرية، زاعمة أنّ هذه المؤسسات كانت مصدراً لأعمال عسكرية ضد جيشها، ما يتسبب في سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا الأبرياء؛ لذا عليها أن تبرر هكذا تجاوزات بكل صعوباتها أمام المجتمع الدولي. كلُّ هذه المآسي تحصل تحت عنوانين متناقضين: «حماس» تخطط لإزالة إسرائيل من الوجود، وإسرائيل تعمل للقضاء على «حماس». لذا نحن أمام حربٍ مفتوحة، قد تتخللها هدنة أو هدن، لكن الإستحالات المتبادلة لن تؤدي إلى سلامٍ مستدامٍ بين الفريقين، ويبدو أنّها لن تنتهي إلاّ بانتصار أحد الفريقين وهزيمة الآخر.
(*) نائب سابق في «تكتل الجمهورية القوية»