علامات استفهام ضخمة تحتل مساحة التحليل والقراءة في فصول الأحداث المتسارعة المتأتية من حرب غزة، لا سيما وأنّ العالم، وليس فقط منطقة الشرق الأوسط، يعيش، حالياً، أكثر المراحل دقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكأنّ أبواب المجهول للقوى الكبرى كافة، فُتحت وانسحبت سلبياتها على الصغار الدائرين في فلك هذه القوى.
ففي حين تعاملت إسرائيل، وكعادتها مع القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والقاضي بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، على أنه لا يعنيها، سارعت لإبداء امتعاضها من حليفها الأميركي لعدم استخدامه حق الفيتو كما فعل مراراً منذ اندلعت الحرب قبل أكثر من خمسة أشهر.
وربما ليس صدفة أن يتزامن هجوم موسكو الدموي مع تطورات حرب الإبادة لفلسطينيي غزة، وتحديداً بعدما أقرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّ «متطرفين إسلاميين» هم المرتكبون، عقب إعلان تنظيم «داعش» مسؤوليته عن المذبحة. وامتدت التداعيات إلى فرنسا مع تحذير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من تنظيم إسلامي متطرف كان وراء محاولات جرى إحباطها لمهاجمة فرنسا خلال الأشهر القليلة الماضية، ومع رفع الحكومة الفرنسية مستوى التحذير من الإرهاب إلى أعلى مستوياته الأحد الماضي.
ذلك أنّ بين الحدثين خيطاً وخطاً، فإعادة تعويم الخطر الإرهابي القائم على «الإسلاموفوبيا» يصب في مصلحة إسرائيل، ويعزز حججها لارتكاب جرائمها ضد المدنيين الفلسطينيين. والمؤسف أن يترافق نشاط التطرف غالباً مع التصعيد ضد المدنيين وتبرير قتلهم خدمة لمشاريع أنظمة مجرمة، سواء في سوريا، أو العراق، او فلسطين المحتلة… أو لبنان الذي يواجه خطر حرب واسعة مع تهديد وزير الحرب يوآف غالانت الذي بشّرنا بأنّ «وقف الحرب في غزة قد يُقرِّب حرباً على الجبهة الشمالية» مع «حزب الله».
وفي حين لا يزال «الصبر الاستراتيجي» هو السائد على تكتيكات «حرب المشاغلة» من جهة الحزب، لا بد من التوقف عند حاجة إيران في هذه المرحلة إلى قطع حساب سياسي يكشف ما لها وما عليها، وتحديداً مع اعتمادها قراءة ذكية للتطورات الإقليمية والدولية، تعكس مرحلة «حمّالة أوجه» قوامها تقليص المحاذير السياسية المرتبطة بها مباشرة، وإن استمرت أذرعها في غزة ولبنان تدفع أثماناً دموية باهظة، تضاف إلى الخسائر المادية التي يتسبب بها العدوان الإسرائيلي.
لذا تنسج المرجعية الإيرانية لمحور الممانعة استراتيجية قلب المعادلات لصالحها حتى يتحقق لها الفوز ويعيد أمجاد إمبراطوريتها من خلال تقديم نفسها كمفاوض فاعل عن أذرعها، ولا يهم إن هي زجت الدول التي تسيطر عليها في مزيد من الخراب والتدمير.
وهي لا تهتم أو تكترث عندما تعمل على القطعة في حين تخوض أذرعها ماراتون الموت، وتقف شبه عاجزة في وجه عواصف متلاحقة، وتنتظر تدخل الدول صاحبة القرار عالمياً وإقليمياً ومفاوضاتها وصفقاتها لتعزيز نفوذها عندما تنضج التسويات، من دون أن يمنع التقاسم تنافس المجتمعين ذاتهم على بسط سيطرتهم أكثر فأكثر حيث يستطيعون إلى ذلك سبيلاً.
والواضح أنّ ما هو ملعون ومدان في ملف ما حلال ومباح في ملف آخر. فرأس المحور ينتهج مبدأ الحسابات على القطعة… خصومة هنا ووفاق هناك. وكل شيء مرهون بمسار المفاوضات وما سوف يرافقها من ترتيب لخرائط الدول التي تسيطر عليها إيران. ومصير هذه الدول سوف تبلوره عمليات البيع والشراء التي يتولاها رأس المحور ومن سيفاوضه لبت الحلول المطلوبة بعد وضع الصراعات على الطاولة والتعامل مع كل منها على حدة، اللهم إلا إذا فتحت أبواب المجهول صراعات أعنف تخلط الأوراق وتنسف ما قبلها وتغرق تحت وطأة ما بعدها.