Site icon IMLebanon

ما بعد غزّة…

 

خروج عرفات من بيروت ودروس 1982

 

 

حتى لو استطاعت إسرائيل أن تقضي على «حماس» وأن تدمّر قطاع غزّة بالكامل، وتجتاحه وتحقّق انتصاراً بالمعنى العسكري، فإنّها لن تستطيع أن تمحو آثار الضربة القاسية التي تلقّتها في 7 تشرين الأول في عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها الحركة الإسلامية الفلسطينية المدعومة من إيران و«حزب الله»، والتي حاولت أن تحتلّ من خلالها موقع الممثّل الثوري الوحيد للشعب الفلسطيني. وكأنّ مشهد غزّة يعيد إلى الأذهان مشهد خروج عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982.

في 11 آذار 1978 نفّذت مجموعة فلسطينية عملية «كمال عدوان» داخل إسرائيل. 13 مسلحاً بقيادة دلال المغربي، ركبوا باخرة شحن قبل أن ينتقلوا منها أمام الشواطئ الإسرائيلية وعلى بعد نحو 12 كلم، إلى زورقين، ويتوجّهوا نحو السواحل الفلسطينية المحتلة لتنفيذ عملية عسكرية معقّدة، واختطاف رهائن والتوجه بهم إلى الكنيست الإسرائيلي في تل أبيب.

 

هدف العملية الأساسي كان المطالبة بإطلاق الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. نجح المسلحون في النزول على شاطئ حيفا وخطفوا باصين ينقلان الركاب قبل أن يجمعوهم في باص واحد. ولكن العملية انتهت بكارثة بعد تصدّي الجيش الإسرائيلي للمجموعة ويشتبك معها الأمر الذي أدّى إلى مقتل أفراد المجموعة و37 إسرائيلياً وجرح 76. بمفهوم العمل الفدائي الفلسطيني الذي كان يؤجّج مشاعر الصراع مع إسرائيل بانتظار تحقيق نصر كبير، كانت العملية مدعاة افتخار من حيث الجرأة. اذ من شأن الإعلان عن خرق الأمن الإسرائيلي الحديدي والنزول على شواطئ حيفا وخطف الرهائن، أن يعطي مشروعية لمثل هذه الأعمال العسكرية وأن يرفد المقاومة الفسطينية بمزيد من التأييد.

 

من بيروت إلى ميونخ وحيفا

 

كانت تلك العملية تحوّلاً نوعياً في العمليات الفلسطينية التي كانت ترعاها في شكل أساسي حركتا «فتح» و»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، بالإضافة إلى تنظيمات أخرى لم تبلغ المستوى نفسه في الصراع المفتوح مع إسرائيل. في 10 نيسان 1973 نجحت مجموعة كوماندوس إسرائيلية بالنزول على شاطئ الأوزاعي، في الضاحية الجنوبية لبيروت، ووصلت إلى شارع فردان واغتالت ثلاثة قادة من حركة «فتح» هم كمال عدوان وكمال ناصر وابو يوسف النجار.

 

العملية بحدّ ذاتها كانت واحدة من الحرب المعاكسة التي شنّتها إسرائيل بعد عملية ميونيخ في 5 أيلول 1972. عندما نجح ثمانية فلسطينيين في احتجاز رياضيين إسرائيليين مشاركين في دورة الألعاب الأولمبية في ألمانيا. ولكن العملية انتهت بكارثة أيضاً وقُتِل فيها خمسة فلسطينين و11 لاعباً إسرائيلياً وطيار وشرطي ألمانيان، واعتقل ثلاثة من المنفذين أطلقت ألمانيا سراحهم في 29 تشرين الأول 1972 إثر عملية خطف طائرة ألمانية كانت متوجهة من بيروت إلى ألمانيا.

 

حجم عملية دلال المغربي، التي كانت للرد على عملية فردان، دفع إسرائيل إلى اجتياح لبنان في 14 آذار 1978 في «عملية الليطاني» التي هدفت إلى إبعاد التنظيمات الفلسطينية عن الحدود الجنوبية. ولكن هذا الهدف لم يتحقّق. على رغم صدور القرار 425 عن مجلس الأمن الدولي وإرسال القوات الدولية إلى الجنوب، وانسحاب الجيش الإسرائيلي وخلق شريط حدودي بقيادة الرائد في الجيش اللبناني وقتها سعد حداد، لم تتوقّف العمليات الفلسطينية حيث استمر القصف بالصواريخ.

 

خروج «فتح» ودخول «حماس»

 

على رغم وصول معلومات إلى ياسر عرفات حول تحضير إسرائيل لاجتياح كبير يتجاوز حدود نهر الليطاني، لم يصدِّق أنّ مثل هذا الإجتياح سيحصل وأنّه سيصل إلى بيروت. في تقديره بحسب المعلومات أنّه كان سيتوقّف عند نهر الأولي شمال صيدا. أعدّت إسرائيل لهذا الهجوم الكبير قبل أشهر وانتظرت الشرارة التي ستكون حجّة للبدء بالعملية. في 3 حزيران 1982 تعرّض السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف لمحاولة اغتيال نفذتها مجموعة تابعة لأبو نضال، المنشق عن حركة «فتح» وعن منظمة التحرير. على رغم عدم مقتل السفير ومحدودية العملية، أطلقت إسرائيل عملية «سلامة الجليل». ووصلت قواتها إلى بيروت وحاصرتها وأجبرت عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج منها مع المقاتلين.

 

خروج عرفات من بيروت أسّس لتغيير كبير في المشهد اللبناني والفلسطيني، وأدّى لاحقاً إلى ولادة «حزب الله» وحركة «حماس» الفلسطينية. بينما كان عرفات يتجه نحو السلام مع إسرائيل، وبينما كانت حركة «فتح» تتجه إلى العودة إلى أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزّة والضفة الغربية بعد اتفاقات أوسلو في 13 أيلول 1993 وتتخلّى مبدئياً عن الكفاح المسلح والعمليات في الخارج، كانت «حماس» هي التي بدأت السير على هذا الطريق.

 

في العام 2006 استطاعت أن تفوز في الإنتخابات التشريعية، وأن تسيطر بعد عام واحد على قطاع غزّة وتطرد حركة «فتح» منه بعد معارك دموية وتصفيات أخوية. منذ ذلك التاريخ سارت «حماس» على درب عسكرة القطاع على رغم الحصار الذي كانت تفرضه إسرائيل عليه. ولكنها بعد سلسلة حروب محدودة شنّتها عليها إسرائيل استطاعت أن تطوّر قدراتها العسكرية قبل أن تنجح في تنفيذ عملية «طوفان الأقصى».

 

خارج السيطرة وأمام الحساب

 

انطلقت «حماس» دائماً من خلفية أنّها تقود إسرائيل إلى الهزيمة، وأنّ إسرائيل باتت عاجزة عن التصدّي لها ووقف نموّها العسكري وأنّها باتت تمتلك قوة ردع صاروخية وبشرية تؤهّلها لتحقيق التوازن الإستراتيجي مع إسرائيل التي ستكون عاجزة عن اجتياح قطاع غزّة بعدما كانت خرجت منه في 15 آب 2005 بقرار من رئيس الوزراء أرييل شارون، وأخلت المستوطنات وفكّكتها، مع علمها أن الحركة المناوئة لها وللسلطة الفلسطينية قادرة على السيطرة عليه.

 

كما عرفات بين 1978 و1982، لم تلتزم «حماس» حدود اللعبة المسموح بها، وحاولت خرقها وكسر التوازن. صحيح أنّها نجحت في توجيه ضربة قاسية إلى إسرائيل لن تنساها، ولكنّها عرّضت نفسها للحساب. بعد اجتياحه الكويت في 2 آب 1990، شعر الرئيس العراقي صدام حسين بالنصر وبغطرسة القوة، ولكنه نجح أيضاً في توحيد العالم كله ضدّه في الحرب التي شنّتها عليه واشنطن لطرده من الإمارة التي طالما اعتبر العراق أنّها جزء منه.

 

حتى رئيس النظام السوري حافظ الأسد وقف في صفّ الأميركيين. غطرسة القوة التي مارستها «حماس» في عملية «طوفان الأقصى» وحّدت العالم الغربي كلّه مع إسرائيل. حتى السلطة الوطنية الفلسطينية لم تدافع بشكل واضح عنها. وحتى إيران و»حزب الله» تهيّبا المشاركة في الحرب لتخفيف الحصار عنها وعن قطاع غزّة. «الحركة» تنتظر في القطاع موعد تصفيتها. على عكس عرفات لن يكون هناك مجال للخروج من القطاع. لقد خرج عرفات من بيروت ووجد ملاذاً آخر في تونس. لم يكن يخرج من فلسطين إلى مكان آخر. ولم يكن معزولاً عالمياً وعربياً، بل كانت هناك حالة تعاطف معه ومع القضية الفسطينية التي كانت تقف أمام مفترق تاريخي خطير ومغامرة قادت عرفات إلى السلام مع إسرائيل.

 

نزهة عسكرية

 

في ظل «اتفاقية أوسلو» ولدت ونمت وتوسعت وتسلّحت حركة «حماس». يقال إنّ عرفات لم يكن بعيداً عن ولادة هذه الحركة وحتى عن ولادة «الجهاد الإسلامي». بطبيعته المنخرطة في الصراع المفتوح مع إسرائيل الذي أسّس له منذ إنطلاق حركة فتح مطلع عام 1965، كان يريد أن يقفل صفحة لتُفتح صفحة جديدة. وكان هدفه تحقيق العودة إلى فلسطين وإقامة السلطة الوطنية من دون التخلّي عن الكفاح المسلح والعمل الأمني. اعتباراً من العام 1987 خرجت «فتح» وباقي المنظمات تقريباً من تنفيذ العمليات الأمنية وبدأت حركة «حماس» تنمو وتعمل على هذا الخط.

 

في عملية «طوفان الأقصى» بدا مسلحو الحركة وهم يجتازون السياج الفاصل بين القطاع ومناطق السيطرة الإسرائيلة كأنّهم في نزهة عادية. ثمّة أسئلة كثيرة لم تتّضح الإجابات عنها بعد. كيف تمكّن مسلحو «الحركة» من تحقيق هذا الإنجاز؟ كان يكفي أن تتنبّه أي وحدة عسكرية إسرائيلية للتسلّل الظاهر بوضوح براً وبحراً وجواً، وأن تتصدّى له لتُفشله، أو لتحدّ من توغّله من دون الحاجة إلى اتصال مع القيادة العسكرية الرئيسية. هذا قرار فوري يمكن اتخاذه ولو تعطّلت، كما قيل، الإتصالات العسكرية الإسرائيلية.

 

في حرب 1973 لم يحتج الجيش الإسرائيلي إلا لساعات قليلة حتى يستوعب الهجوم المباغت على الجبهتين السورية والمصرية. وخلال 48 ساعة كان يقوم بالهجمات المعاكسة وباختراق الجبهتين وتهديد القاهرة ودمشق في ظل الإنكشاف العسكري، كما حصل في حرب حزيران 1967. في تلك الحرب خسرت إسرائيل أقلّ من ألف جندي. في عملية غزّة الأخيرة احتاج الجيش الإسرائيلي إلى أكثر من ثلاثة أيام لكي يستوعب الصدمة ويقوم بالهجوم المعاكس من دون أن تتمكّن إسرائيل من إحصاء الخسائر البشرية التي تصاعدت من 200 قتيل إلى نحو 1500، بالإضافة إلى أكثر من 150 أسيراً بين مدني وعسكري. ولكن كما في حرب 1973 كان هجوم «حماس» من دون أفق عسكري. ولذلك نجحت «الحركة» في العملية التكتيكية وخسرت في الحرب الإستراتيجة التي قد تؤدّي إلى القضاء عليها بعد محاصرتها في القطاع وعدم ترك أي مجال لها سوى الإستسلام.

 

بعد خروج عرفات من بيروت كانت لديه خيارت أخرى وأفق أوسع وهامش كبير من» الحركة». بعد مواجهة غزّة لا يبدو أنّ لـ»حماس» أي أفق. حجم الحرب للردّ عليها أكبر من أي مساعدة يمكن أن تُقدّم لها. حتى إيران و»حزب الله» يتريّثان في تقديم الدعم. وربما تفاجآ أيضاً بردة الفعل كما تفاجأ عرفات بحجم العملية الإسرائيلية في حرب 1982.