خلال الثورة التي قادها سلطان باشا الأطرش في سوريا، يوم راح الفرنسيّون يقصفون دمشق بالمدافع، قال الشاعر اللبناني والأديب الكبير أمين نخله: «مدافع الفرنسيين تتساقط على العاصمة الشامية ، وأنا أجريتُ بهذا اليراع المسيحي دمع العذراء على دمشق، وحرّكتُ الضمائر وأثرْتُ النخَوات وما دمشق مسيحية ولا أنا مسلم».
معركة المدافع التي تتساقط على غـزّة، ليست معركة إسلامية، ولا معركة فلسطينية بقدر ما هي معركة الإنسان.
منذ أن أعلن الفيلسوف الألماني «نيتشه» موت اللـه في القرن التاسع عشر، وسلطةُ الأرض تسلب من يـد اللـه حياة الإنسان وحقّـه وحرّيتة وسعادته، وإذا كان الإنسان بحسب التعبير اللاّهوتي هو صورة اللـه على الأرض، فإنّ قتْلَ الإنسان ظلماً وبغير حـقّ هو اغتيالٌ لصورة اللـه، وإذ ذاك تهرب المجتمعات الإنسانية قسْراً من ربِّ الحياة إلى شياطين الموت.
معركة غـزّة، هي معركة الإنسان التي راحت تسترجع أشباح القرون الوسطى، بما تمخّضت بـه من أفران الغاز، ومدافن العظام، وأكياس الجثث، وأقبية التعذيب، وتلك الهمجية الفاضحة التي مارستها المعسكرات النازية والفاشية، اغتيالاً للحضارة.
ومعركة غـزّة، هي خلاصةٌ لتراكم الحـقّ المهدور والدم المهدور ، فإذا الأوطان مدافن وزنزانات، تُشـنُّ فيها معركة الإنسان مع الأنظمة، ومعركة الأنظمة مع الأنظمة، ومعركة العنف مع العنف… أباطرةٌ وملوكٌ ورؤساء، ورؤوسٌ مكلّلة بالتيجان، يرتكبون الكبائر فوق الأرض، ولا يدركون أنّهم سيصبحون تحت الأرض ويمشي غيرُهُم فوقهم.
«طوفان غـزّة»، هو الحلقة المتفجَّرة من هذا المسلسل الدموي الذي يشهده هذا العصر، وهو يجسّد غير طوفانٌ صامت كنتيجةٍ لممارسة الحكام وفـق ما كان يرّدده الملك الفرنسي لويس الخامس عشر: «من بعدي الطوفان».
أمّا بعد، فإلى أين سيؤدي بنا هيجان هذا الطوفان الإنساني…؟
لا من مصلحة أميركا، ولا إسرائيل، ولا إيران، ولا المقاومة، قـرْعُ طبول الحرب، لأنّ للحرب مردوداً رهيباً يرتـدّ على الجميع «بالويل والثبور»، بلْ لعلّ أفضل الأمور «فإنْ جَنَحوا للسلم فأجنحْ لها» (1).
ولكن، إذا كان المثل العربي يقول: رُبَّ كلمةٍ سبّبتْ حرباً، فكيف بالنسبة إلى المدفع والصاروخ ومجزرة المستشفى المعمداني؟
مع توجّه حاملة الطائرات الأميركية إلى المنطقة وجّـه الرئيس الأميركي «جـون بايدن» لمن يستغلون حرب غـزة للتدخّل فيها، تحذيراً بكلمة «إيّاك أن تفعل»، وكلمة «إيّاك» مثلما تشكَّل تهديداً لمن قد يتدخّلون فهي تشكّل تهديداً ذاتياً أيضاً للولايات المتحدة نفسها، فإنْ همُ تدخّلوا، ولم تتدخّل، وإنْ همُ فعلوا ولم تفعل، وإنْ هي فعلت أو لم تفعل، فإنّها تحمل هي وحاملة طائراتها هزيمة عالمية، وتصبح مطلوبةً حيّـةً أوْ ميتـةً في منطقة الشرق الأوسط، على طريقة صيادي الجوائز الأميركية.
هذه الأرض التي زلزلتْ زلزالها البشري انتصاراً لغـزة وتنديداً «بمجزرة المعمداني» تكاد تنوب عن أي صواريخ يوجّهها «حزب الله» من لبنان إلى العدّو الإسرائيلي.
الحرب العسكرية تبدأ وتنتهي بمعاهدة، والحرب الإنسانية الشعبية العارمة تستمرّ ويستمرّ معها العهد وثاقاً ووثيقة انتصار.
وهذا الزلزال البشري العالمي، يبرِّئ ذمّـة رئيس حكومتنا الذي أعلن بلهجة انفعالية متحسِّرة، بأنّ قرار السلم والحرب ليس بيد السلطة اللبنانية، ويبرّئ حسرتَه حيال الوزراء الذين يقاطعون الجلسات الوزارية في هذا الظرف العصيب، وهم الذين يرفضون بأمْـر، ويرفعون أصابعهم بأمْـر، وممنوع أنْ يرفعوا رؤوسهم.
في التاريخ: عندما طارد هتلر اليهود مطاردة شرسة واستقبل مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني وظهرت صورتهما في الصحف، هلّل لـه اللبنانيون ومعظم العرب، وقد بدا هتلر عندهم بالرغم مما كان عليه أرحمَ من اليهود. (2)