المشهد اليوم للميدان في غزة والمنطقة وليس لأيّ شيء آخر، ومن الصعوبة رسم معالم المشهد السياسي الذي سترسو عليه هذه المنطقة قبل اكتمال الصورة العسكرية.
لا تؤشر مجريات المعركة العسكرية إلى انّ الحسم اقتربت فصوله سوى في حال ظهور ما هو غير متوقّع مثل انهيار مفاجئ لحركة «حماس»، ولكن لا مؤشرات لذلك، او اضطرار إسرائيل إلى وقف عملياتها العسكرية بسبب تكبّدها خسائر فادحة، ولا مؤشرات لذلك أيضا بفعل ربطها مصير وجودها بوجود «حماس»، فإذا بقيت الأخيرة دخلت إسرائيل في عصر الزوال، وإذا أخرجتها من غزة تكون قد استعادت قوة الردع.
وقد صدر أكثر من تصريح إسرائيلي من رئيس الدولة والحكومة ووزير الدفاع وغيرهم أكدوا فيها انّ الحرب طويلة، وقد تكون خلفية هذه المواقف تهيئة المجتمع الإسرائيلي لأشهر صعبة وغير مسبوقة عليه منذ زمن طويل على مستوى الخسائر الاقتصادية والتعبئة المستمرة والاستنفار المتواصل، خصوصاً ان الحرب داخل غزة ستكون حرب شوارع، والملاحظ ان الجيش الإسرائيلي لن يُقدم على خطوة الاجتياح قبل ان يتأكّد من انّ بنية «حماس» العسكرية قد أنهكت، خصوصاً انه، بالنسبة إليه، وضعها تحت نيرانه ونجح بالحَدّ من نيرانها باتجاهه.
وعلى رغم ان العملية العسكرية البرية مفتوحة على المفاجآت إلا ان إسرائيل اتخذّت قرارها بالاجتياح بمعزل عن الانعكاسات، والاجتياح يعني مبدئياً بدء العد العكسي لإخراج «حماس» من غزة، وهنا ستتوجّه الأنظار إلى إيران ورد فعلها غير المباشر طبعاً عن طريق أذرعها في لبنان وسوريا والعراق، لأنّ طهران لن تدخل مباشرة في الحرب، وآخر حروبها كانت مع عراق الرئيس صدام حسين. ومذّاك الوقت تقاتل بالواسطة، فضلا عن ان البوارج الأميركية رسالة عملية وفعلية بأنّ واشنطن ستتكفّل بمواجهتها في حال دخولها المباشر في الحرب.
ولكن مع بدء الاجتياح الإسرائيلي لغزة سيكون من الصعب جدا على إيران ان تبقى على الحياد لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول: خسارتها للورقة الفلسطينية ليس فقط من خلال إخراج «حماس» من غزة، إنما بفعل إنعاش السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ لن تنتهي الحرب مبدئيا سوى على قاعدة سياسية ستضع الولايات المتحدة كل ثقلها من أجل جعلها قاعدة صلبة هذه المرة برعاية عربية وتحديداً سعودية، ومع خطوة تاريخية من هذا القبيل يعني قطع الطريق نهائياً على الاستثمار الإيراني في البيئة او القضية الفلسطينية، خصوصا انه في حال سلك حلّ الدولتين فإنه سيؤدي إلى تعويم السلطة الفلسطينية الجديدة ماليا وسياسيا وترييح الفلسطينيين من خلال ربطهم مع الخطوط الاقتصادية الدولية.
وما تقدّم قد يكون أحد أهداف ما بعد الحرب، ولكن ليس بالضرورة ان يتحقّق لاعتبارات إسرائيلية قبل ان تكون فلسطينية، ولكن في حال النجاح في تحقيق هذا الهدف يعني خروج إيران ليس فقط «حماس» من الاستثمار في الملف الفلسطيني، وهذا ما لا يمكن ان تتساهل معه طهران سوى إن قرّرت فعلاً الانضمام إلى خيار السلام، وهذا ما هو مستبعد حصوله. ولذلك، ستقوم بالمستحيل لقطع الطريق على المسار التطبيعي.
السبب الثاني، كَونه من الصعب منطقياً ان تقتصر حدود التسوية السياسية على الإسرائيليين والفلسطينيين، إذ بعد آلاف الضحايا والخسائر وتدخُّل العالم قاطبة والضربة الموجعة لإسرائيل ليس فقط عسكريا إنما على مستوى وجدانها وذاكرتها التاريخية والجماعية، لا بدّ من ان يكون هناك تهيئة لإنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي بالتزامن مع إنهاء هذا الصراع على الخط الفلسطيني-الإسرائيلي، وهذا يعني عدم الاكتفاء بالترسيمَين البحري والبري بين لبنان وإسرائيل، إنما إيجاد حلّ لمسألة «حزب الله» تجنباً لاستمرار التهديد الوجودي على جبهتها الشمالية، إذ ما حصل مع «حماس» في غزة في 7 تشرين الأول قد يتكرّر مع «حزب الله» في المستقبل.
ولا يفترض إطلاقاً استبعاد ان يكون لبنان ضمن الحلّ الذي يتم الإعداد له، وهذا ما لا يمكن ان تتساهل معه طهران كونها ستفقد أبرز ورقتين لديها على تماس مباشر بالصراع مع إسرائيل، وتحديدا «حزب الله»، وهو من أقدم أوراقها وأبرزها. ومن هنا لا يجب استبعاد ليس فقط دخول الحزب على خط الحرب لإلهاء الجيش الإسرائيلي ومنعه من الحسم على «حماس»، إنما إشعال جبهات أخرى لها علاقة بمصالح واشنطن او غيرها. وبالتالي، من البديهي تَوقّع ما ليس في الحسبان في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، اي ليس فقط على خط المواجهة مع إسرائيل. فهدف إيران إبقاء القديم على قدمه، أي استمرار ساحات النزاع على ما هي عليه اليوم من دون أي تغيير، ولكن الحرب الدائرة وما يخطّط لما بعدها يمكن ان تؤدي إلى تغيير كبير وخلط واسع للأوراق تخسر معها إيران تأثيرها العسكري في الساحتين الفلسطينية واللبنانية وربما السورية. وبالتالي، إنّ مفاعيل هذه الحرب قد تعيدها إلى ما كانت عليه قبل إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وهذا ما لا يمكن ان تتساهل معه وستتصدى له بكل قوتها.
السبب الثالث من طبيعة معنوية، إذ إنّ عدم تدخُّل إيران او «حزب الله» او افتعال طهران لأمر ما كبير يؤدي إلى تشتيت الأنظار الأميركية، سيؤدي إلى تضعضع داخل صفوف مكونات محور الممانعة، إن لجهة انه تم التضحية بأحد المكونات من دون ان يلقى المساندة المطلوبة، او لناحية خروج إسرائيل منتصرة من الحرب بإخراج «حماس» من غزة، وما بينهما انتقال الأزمة إلى داخل مربّع المكونات المتبقية بأنّ مصيرها لن يختلف عن مصير «حماس»، هذا عدا عن ان مرحلة ما بعد الحرب ستقيِّد حركة هذه الأذرع، وتطوّقها وتحديداً «حزب الله».
فالصراع اليوم أكبر من حرب على جبهة، إنما هناك احتمال كبير بأن يشكّل منعطفاً لإقفال ملف الصراع العربي-الإسرائيلي كَون الضربة الموجعة التي تلقّتها دولة إسرائيل منذ قيامها في العام 1948 ستضطرها إلى الحسم العسكري مع «حماس» وتقديم التنازلات السياسية مع السلطة الفلسطينية في آن معاً، وهي مستفيدة من اندفاعة غربية استثنائية وفي طليعتها أميركية، ومن بيئة خليجية هي أقرب ما يكون عن احتضان سلام فعلي وحقيقي. وبالتالي، أمام هذا التحوّل الكبير المتوقّع في المنطقة هل يمكن ان تردِّد إيران ولو ضمناً ما قاله السيد حسن نصرالله علناً في حرب تموز 2006: لو كنت أعلم بأنّ العملية العسكرية لـ»حماس» ستؤدي إلى هذا الردّ الفعل الإسرائيلي والدولي لما سمحت للحركة بأن تُقدم عليها.
ويبدو انه حتى «حماس» لم تكن تتوقّع هذا النجاح لعمليتها العسكرية، إنما أرادتها في سياق تسجيل خرق عسكرتاري يؤدي إلى ردّ فعل كلاسيكي، ولكن ما حصل شكّلَ مفاجأة للحركة وإسرائيل ومحور الممانعة، لأنه لو كان متوقعا للعملية ما حققته لكانت مكونات الممانعة الأخرى تدخلت فوراً، ولكن الجميع أصيب بذهول وعدم جاهزية لحرب مفتوحة من هذا القبيل.
ولكن السؤال الأساس يبقى كيف ستتصرّف إيران مع الاجتياح الإسرائيلي البرّي لغزة وما سَينجم عنه من رسمٍ لمعالم المنطقة سياسياً، فهل يمكن ان تبقى على الحياد أمام مشروع يؤدي إلى محاصرتها وإعادتها إلى حدود جغرافيتها الإيرانية؟