IMLebanon

صاحب الدار جُنّ [2]: وقائع التهويل والتهديد

 

عاش العالم ساعات من الصدمة بعد الإعلان عن عملية «طوفان الأقصى». لم يكن أحد قادراً على استيعاب ما حصل. في إسرائيل، حيث ارتفع العويل، كان هناك من ينظر شمالاً خشية أن تكون العملية جزءاً من خطة أوسع بالتعاون مع محور المقاومة. الاتصالات العالمية، في الأيام الأولى التي أعقبت يوم 7 أكتوبر المجيد، تمحورت حول سؤال واحد: هل ستفتح ساحة أخرى في وجه إسرائيل؟

 

الهلع في كيان العدو انعكس في تصرفات أنصاره الغربيين وتصريحاتهم ومداولاتهم. كانت بيروت وجهة هؤلاء جميعاً، حيث بدأت اتصالات مباشرة وغير مباشرة مع حزب الله، بإشراف أميركي كامل. فقد بدا واضحاً أن حاملي الرسائل كانوا يعملون ضمن توجّه أميركي هدفه أمر واحد: جدوا الطريقة الأفضل لإقناع حزب الله بعدم التورط. وأرفق الأميركيون نصيحتهم هذه بعبارات اعتقدوا أنها تساعد الوسطاء كالقول إن المعطيات لا تشير الى تورط مباشر للحزب وإيران في العملية. وكان على الوسطاء السذّج إكمال الجملة بالقول: اتركوا الأمر بين إسرائيل وحماس!

 

جواب حزب الله للوسطاء جميعاً كان أن الأولوية هي لوقف العدوان على غزة. وسمع هؤلاء بوضوح أن من لا يوقف الحرب لا يمكنه مطالبة الآخرين بالصمت، ولكن من دون أن يقدّم أيّ إشارة الى ما ينوي القيام به، وأرفق الصمت الذي التزمه بتنفيذ عمليات في مزارع شبعا. أقنع الغربيون أنفسهم بأن هذا «رد فعل محمول» طالما أنه ضمن قواعد اللعبة. لكن الإسرائيليين كانوا يعرفون أن الأمر ليس على هذا النحو، وأن الحزب سيجد سبيلاً للقيام بما هو أكثر. فيما غرق دبلوماسيون وأمنيون غربيون في تحليل مقاصد دعوة القائد محمد ضيف المقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران الى الدخول في المعركة: هل هو طلب نجدة مستعجلة، أم هو تأكيد على أن «طوفان الأقصى» من ضمن أهداف المحور؟ وبقي السؤال – اللغز: كيف يمكن إقناع حزب الله أو ردعه؟

لم يطل الوقت قبل أن يستسلم الوسطاء، بعدما فهموا أن حزب الله لن يجيب عن هذا السؤال، وأقنعوا أنفسهم بأنه طالما استمر صمت السيد حسن نصر الله، فإن الموقف الحاسم لم يصدر بعد.

ولكن، قبل الوصول الى هذه الخلاصة، لم يوفّر هؤلاء تهديداً من توسع الحرب، وتعريض لبنان المنهك لضربات مدمرة لن يجد من ينجده منها. وسعى الأميركيون لدى حلفائهم من اللبنانيين لرفع الصوت. رغم معرفتهم بأن هؤلاء ليسوا في موقع من يناقش سفيرة غربية تقول لهم إن إسرائيل اليوم تشبه وحشاً جريحاً ينبغي تجنّب غضبه.

الحصيلة السلبية لهذه الاتصالات دفعت بإسرائيل الى تعبئة عسكرية ضخمة لا تتعلق فقط بالحرب مع قطاع غزة، وإنما أيضاً لتأمين «الحدود» مع لبنان، حيث نُشرت قوات مقاتلة وفرق من قوات الاحتياط وألوية مدرعة. وفي الوقت نفسه، طلبت تل أبيب من الأميركيين القيام بخطوات عملانية لردع إيران وحزب الله، فوجد الأميركيون أن استعراضاً كبيراً للقوة في البحر الأبيض المتوسط يخدم هذه الفكرة، بالتوازي مع رفع سقف رسائل التهديد بأنهم لن يقبلوا بضربة أخرى لجيش الاحتلال، وطلبوا من جهات أوروبية إبلاغ حزب الله أنه في حال انضمامه الى الحرب، ستوجه إسرائيل وحلفاؤها ضربة قاضية للدولة السورية وحكومتها، وأن الرئيس بشار الأسد وأفراد عائلته سيتعرّضون للقتل، وستدمّر دمشق والجيش السوري، مع فتح الباب أمام المجموعات المسلحة للسيطرة على سوريا بأكملها.

 

الفرنسيون الذين يحافظون على خطوط الاتصال، عادوا – بعد زيارة رئيسهم إيمانويل ماكرون للأراضي المحتلة – للحديث عن خشية كبيرة من توسّع الحرب، وقدّموا تقديراً، هدفه الفعلي ليس قراءة الوقائع، بقدر ما يحمل تهديداً للمقاومة في لبنان، إذ قالوا صراحة: «ربما يفكر حزب الله في عمل استباقي يكون مقدّمة لحرب واسعة، وفي هذه الحالة، سيتم تحميل الحزب ولبنان المسؤولية، وسيكون الثمن قاسياً». وأضافوا: «ما فهمناه من إسرائيل أن لديها تصورات للعمل في غزة، قد تلامس حدوداً لا يمكن لحزب الله السكوت عنها، وبالتالي، سيندفع إلى فعل يقود إلى حرب موسّعة. وفي الحالتين، فإن إسرائيل تقول بأنها ستدمّر مؤسسات الدولة اللبنانية وليس مؤسسات حزب الله فقط»!

 

هدّد الأميركيون بقتل بشار الأسد وتدمير دمشق وإيران بتدفيعها ثمن الهجمات على قواعدهم

 

 

جواب حزب الله عن هذه الرسائل كان برفع مستوى المواجهات على طول الحدود مع فلسطين، وبدء العمل بخطة تعطيل المواقع العسكرية والأمنية الإسرائيلية. والحديث، هنا، عن 56 موقعاً عسكرياً ومقر قيادة وثكنة ومركز تجسس من رأس الناقورة الى مزارع شبعا المحتلة. واقتصر برنامج العمل، حتى اللحظة، على استخدام الصواريخ الموجهة («كورنيت» وما يعادله) لضرب هذه المواقع والمدرعات الموجودة فيه، وعدم اللجوء الى أي أسلحة أخرى. وأصرّت المقاومة على تنفيذ هذا الهدف بمعزل عن الكلفة البشرية، إذ تدرك أنها تخوض معركة لا تتمتع فيها بعنصر المباغتة، ولا باتساع أرض المعركة، ولا باستخدام أسلحة عن بعد، بل بمواجهات مباشرة جعلت العدو يلجأ الى مسيّرات قاتلة تولت استهداف مقاومين، في الميدان أو في بعض نقاط تمركزهم، ما أدى الى استشهاد 43 مقاوماً حتى يوم أمس.

 

أراد العدو من سلوكه الميداني الارتقاء في رسائل ردعه، كمن يقول للمقاومة إنه مستعد للمواجهة. لكنه اضطرّ، عملياً، الى إدخال تعديلات كبيرة على خططه الميدانية، وليس تفصيلاً أن يفرغ العدو منطقة كاملة بعمق يتجاوز ستة كيلومترات من المستوطنين، وأن يفرّ أكثر من نصف من يسكنون في عمق 10 الى 12 كلم. كما اضطرّ العدو إلى إخفاء معظم جنوده داخل منازل المستوطنين، وحاذر إرسال دباباته الى السواتر الحدودية.

في غضون ذلك، كان الجيش الأميركي يوسع انتشاره في المنطقة، بالتزامن مع تفعيل خط اتصالات لتهديد طهران. صحيح أن واشنطن رفضت تبنّي رواية العدو بأن إيران تقف خلف هجوم 7 أكتوبر، لكن دوائر أميركية كثيرة بدأت بالإشارة الى الدعم غير المتوقف لحماس وبقية قوى المقاومة، وإلى الخدمات الاستشارية واللوجستية والتدريبية التي تقدمها إيران وحلفاؤها في المنطقة لقوى المقاومة في فلسطين.

وما زاد في رفع واشنطن من مستوى التهديد هو ردّ إيران برسائل مقابلة. فقد واظب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على التحذير من أن استمرار العدوان على غزة سيشعل المنطقة. ورغم حرص طهران على التأكيد أن قوى المقاومة الحليفة لها تتمتع باستقلالية في اتخاذ الإجراء الذي تراه مناسباً، إلا أن مباشرة فصائل المقاومة العراقية توجيه ضربات تجاوز عددها الـ 17 ضد قواعد عسكرية أميركية في سوريا والعراق، فهمه الأميركيون كجواب إيراني على التهديدات.

 

صحيح أن في واشنطن من يقول إن كل المؤشرات تقود الى أن إيران لا تريد توسيع الحرب. لكن أصحاب هذا الرأي نفسه وجدوا أن عليهم التلويح لإيران بأنها ستدفع ثمن ما يقوم به حلفاؤها. وكانت الذروة، بالنسبة الى الأميركيين، ما قام به «أنصار الله» في اليمن. وهو اختبار جعل أجراس الإنذار تدقّ في كل المنطقة، باعتبار أن القدرات اليمينة لا تزعج إسرائيل فحسب، بل تهدد تعطيل حركة الملاحة المدنية والعسكرية والتجارية في البحر الأحمر وبحر العرب، وإمدادات الطاقة والتبادل التجاري في كل المنطقة.

ما هو وارد في البريد الديبلوماسي أن واشنطن اقتربت من لحظة اتخاذ قرار الرد المباشر. ويقدر أنه عند سقوط أول قتيل من الجنود الأميركيين، فإن الولايات المتحدة ستردّ بقسوة، وستحمّل إيران المسؤولية، وتطالبها باتخاذ الإجراءات لوقف الضربات ضد قواتها، في وقت لا تريد فيه الولايات المتحدة لأحد أن يحمّلها مسؤولية ما تقوم به إسرائيل، والمشاركة في الحرب الإسرائيلية.

اليوم، نشهد حشداً أميركياً غير مسبوق في المنطقة. حاملات طائرات ومعها أكثر من عشرة آلاف من جنود البحرية. وتعزيز للقواعد العسكرية، ونشر عدد غير قليل من منظومات الدفاع الجوي المتطورة في إسرائيل والسعودية والأردن ومصر، وعدد أقل في قواعد العدو الأميركي في العراق وسوريا، الى جانب ما هو موجود على متن المدمّرات في البحر، وزيادة عدد الطائرات الحربية في قواعد تقع في دول جنوب أوروبا، وإرسال عدد غير قليل من القوات الخاصة التي تكلّف عادة بعمليات تدمير منظومات مهمة للعدو، أو البحث عن مفقودين. وهي قوات متصلة بمنظومة استخبارات خاصة، بعضها انتشر في فلسطين، وبعضها الآخر يجري تجهيزه في قواعد جنوب إيطاليا واليونان. ما يعني أن الانتشار الأميركي – الذي تقول واشنطن إن وظيفته ردعية فقط – قد يتحوّل في أي لحظة إلى قوة قادرة على الهجوم أيضاً، عدا عن أنه يلزم أميركا، أكثر من قبل، بأن تكون صاحبة القرار في أي عمل عسكري تنوي إسرائيل القيام به، سواء في مواجهة قوى محور المقاومة خارج فلسطين، أو بما خصّ الغزو البري للقطاع.

 

غداً: أيّ غزو برّي ممكن؟