IMLebanon

هل تجرُّنا إسرائيل إلى حرب متعطِّشة إليها؟

 

 

لطالما تذرّع العرب، تبريراً لهزائمهم السابقة مع الكيان الإسرائيلي، كنا ننتظرهم من الشرق يأتوننا من الغرب، وكي لا تتكرَّر المقولة، وعملاً بالقول المأثور «المؤمن لا يلدغ من ذات الجحر مرتين»، تحسّبوا على كل الجبهات وخاصَّة جبهة شمال فلسطين المحتلة أي الحدود اللبنانية – الفلسطينيَّة، ولكن لا تنزلقوا بصراع مفتوح غير مستعدين له.

ليس من السَّهل حسم التوقعات في الحروب، إذ تبقى الأمور مفتوحة على العديد من الاحتمالات، خاصَّة وأن الحروب عادة ما تكون حبلى بالمفاجآت، وغالباً ما تتحول الانتصارات لهزائم والعكس صحيح؛ وعليه نرى أنه من الصَّعب التَّكهن عما إذ كانت الحرب في غزَّة ستبقى محصورة فيها أم ستمتد إلى جبهات أخرى، وما هو حدُّ تمدُّدها؟ وهل ستكون محصورة مع لبنان في حال تمدَّدت؟ أم ستطال جبهات أخرى وأعني بذلك الجولان السوري، ومناطق انتشار الوحدات الأميركيَّة في سوريا والعراق والخليج على امتداد البحر الأحمر؟ وهل سنستطيع إيران إبقاء ترابها بعيداً عن الأعمال القتاليَّة؟

إن الإجابة على هذا السؤال التَّساؤلي المُتشعب لن يكون واحداً ولا حاسماً، وهو يستلزم تشخيص الوضع الراهن، وهذا يتطلب تحليلا شموليًّا وجزئيًّا متكاملين، بحيث يتناول المستويات الدَّوليَّة والإقليميَّة بالإضافة إلى دراسة خصوصيَّة الدول والجهات المؤثرة من حيث تطلعاتها وإمكانيًّاتها واهتماماتها ومشاغلها وأولويَّاتها والظروف الخاصَّة بها، كي يتسنّى للمحلل استنتاج المآلات المحتملة للصراع القائم حاليًّا، وترجيح ما هو منطقي، رغم أنه في الحروب لا تكون الأرجحيَّة دائماً لمنطق الأمور.

على السَّاحة العسكريَّة الفسلسطينيَّة، نرى أن منظمة حماس قد أنزلت ضربة موجعة بالكيان الإسرائيلي مستفيدةً من عنصر المفاجأة إذ صدم الإسرائيليون سياسيين وعسكريين ومدنيين بالعمليَّة التي أُخذوا بها على حين غرَّة، ولنكن موضوعيين لم تكن تلك العمليَّة مواجهة عسكريَّة بكل ما للكلمة من معنى بين القوى المسلَّحة للطرفين المتصارعين، وإن كانا دائمًا في حالة حرب غير معلنة منذ سنوات، ولو تخللها بين الفترة والأخرى وقف لإطلاق النار، وكذلك ما تلاها من رد عسكري إسرائيلي فهو لا يحصل أيضاً بين القوى المسلَّحة، إذ يمكننا بأريحية ضمير القول: إنها حرب من طرف واحد: الجيش الإسرائيلي في مواجهة شعب أعزل لا يمتلك أي شيء من عناصر القوة العسكريَّة، خاصَّة وأن 99% من الهجمات الإسرائيليَّة تستهدف تجمعات المدنيين والأماكن الآهلة عدا عن دور العبادة والمؤسسات الإستشفائيَّة والأفران ومحطات توليد الطاقة ومصادر المياه وغيرها من الأمور الحياتيَّة الأساسية، ساعيةً إلى إنزال أكبر قدر ممكن من الضحايا الأبرياء من الفلسطينيين العزّل بارتكاب مجازر متتالية، بغرض إنزال أكبر قدر من الضَّحايا، لقهر هذا الشَّعب ودفعِه للخنوع والاستِسلام لمشيئة المُحتل المدجج بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً، وهذا باعتراف الكثيرين من الإسرائيليين وداعميهم.

إن ما تقوم به إسرائيل من قصف همجي للمدنيين العزل ينطوي من حيث التَّوصيف القانوني على ثلاث جرائم تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائيَّة الدَّولية وهي: جرائم حرب، وجريمة إبادة جماعيَّة وجرمة ضد الإنسانيَّة، والأغرب أن إسرائيل أعلنت عن نيَّةٍ مبيَّتة مدعية أنها جادة في تحقيقها وهي إخراج الفلسطينيين المقيمين في أرضهم «قطاع غزَّة» وتهجيرهم إلى صحراء سيناء «المصريَّة»، ورغم ذلك تلقى تأييداً غربيًّا معلناً غير محدود، ومن دون أي خجل أو رادع إنساني أو أخلاقي، بل ثمَّة سباق ما بين المسؤولين الغربيين لتوفير أكبر دعم سياسي وعسكري لها، مبدين التعاطُف مع أسراها، في حين أن هناك آلاف المعتقلين الفلسطينيين الذين مضى على وجود بعضهم في سجونها قرابة نصف قرن من الزمن.

منظَّمة حماس التي حضَّرت للعمليَّة ونفَّذتها أعجز من التحضير لهذا العمل العسكري المتقن والمبدع من دون دعم لوجستي وتدريبي من دول لديها ما يكفي من الخبرات العسكريَّة والقتاليِّة؛ ويكاد لا يصعب علينا الاستنتاج أن إيران هي من وفرت الدَّعم لحماس وهيَّأت لها بعضًا من متطلبات تنفيذها، وكانت على علم بحصولها، وربَّما هي من اختار التَّوقيت المناسب، وإن نفت علاقتها أو علمها بها بعيد تنفيذ مرحلتها الأولى. كما أن حماس تعمل في محيط ضيق ومحاصر، وهذا يعني أن إمكانيَّاتها محدودة وبالتالي إن إطالة فترة الحرب والتي دخلت في أسبوعها الثالث يكان يؤدي إلى نفاذ مخزون الأسلحة لديها وبخاصَّة الصواريخ التي تطلقها على المدن الإسرائيليَّة كرد اعتبار أو ما تسميه بعمليات انتقام وثأر للمجازر الإسرائيلية ضد المدنيين، وهي تنتظر بفارغ الصبر بدء إسرائيل بتنفيذ تهديدها باجتياز شمال قطاع غزة، لتثبت جدارتها القتاليَّة، وتثبيت قدراتها الدِّفاعيَّة. ورغم ذلك نقول إن إطالة مدَّة الحرب لا تصب في صالحها لهذه الأسباب وغيرها، كتسريب معلومات للكيان الإسرائيلي أو كشفه أماكن إيواء الأسرى لديها. وقد يأتي يوماً وتتوقف قدرتها على إطلاق الصَّواريخ من عزَّة أو تقل وتيرتها إلى مستويات دنيا، خاصَّة وأن المستجدات الدبلوماسية لا توحي أن ثمة مؤشرات لبوادر سياسية في المدى المنظور ساعية لوقف الأعمال الحربيَّة.

وحماس أيضاً غير مرتاحة لوقوف الممانعة وداعمتها إيران موقف المتفرج مما يحصل من إبادة على تراب غزَّة، هذا فيما لو استثنينا حزب الله الذي يشاغل وعلى نطاق محدود قوات جيش الاحتلال على امتداد الحدود الشمالية لفلسطين والتي أقل ما يقال فيها أنها مناوشات قتاليَّة مضبوطة وإن زعم البعض أنها تحدّ من وتيرة الضَّغط العسكري على قطاع غزَّة، وأكثر ما يزعجها تخلي باقي القوى الفلسطينية عنها باستثناء منظمة الجهاد الإسلامي.

إسرائيل من جهتها، مستفيدة من الدَّعم الأميركي والغربي اللامحدود، تستمر بعمليَّات القصف البربري الممنهج، وتكاد تكون أهدافها المفترضة على وشك أن تنفذ، لذا تراها تبحث عن أي هدف موجع ومستجد لتقصفة غير عابئة بموجات الاحتجاجات الشَّعبيَّة على المستويين العربي والدَّولي، ولا باستنكارات وشجب المنظَّمات الدَّولية التي تعنى بحقوق الإنسان. وهي تعتمد سياسة المراوغة في منع إدخال المساعدات الطبية والمعيشية الملحَّة أو إعاقتها إلى أقصى الحدود، والقصد من ذلك تقويض قدرات الشَّعب الفلسطيني في القطاع على الصمود، من خلال تجويعه وإنزال أكبر قدر من الخسائر البشريَّة والماديَّة به؛ وهي إن سمحت بتمرير بعض المساعدات الإنسانيَّة ربما بقصد تهريب أجهز تنصت واستشعار كما جواسيس وعملاء مع قوافل الإغاثة، لتتمكن من جمع معلومات دقيقة عن مقاتلي حماس وخنادقهم، كما عن أماكن إيوائهم للرهائن الإسرائيليين.

تحرص إسرائيل على التَّلويح دائماً بتحضيرها وتجهُّزها للقيام بعمليَّة اجتياح بري للقطاع كاملاً أو للمنطقة الشماليَّة منه، ولكن اللافت أنه سرعان ما تعلن عن إرجائه تحت ذرائع مُختلفة، ربما بانتظار جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، أو بغرض المزيد من الإستعدادات العسكريَّة وهذا أمر مستبعد، أو لاستنكاف ضبَّاطها وجنودها عن الانخراط في هذه المعركة المكلفة والتي ستعرض حياتهم للخطر، وهذا ما يستوحى من النقاش الدائر في إسرائيل عن استنكاف كبار القادة في قواتها الجوية وعدد كبير من الطيَّارين عن المشاركة في القتال. والأخطر من بين تلك التَّكتيكات أن تكون إسرائيل لا تنوي حقيقة اجتياح القطاع بريًّا تلافياً للمزيد من الخسائر البشرية بين جنودها، والإكتفاء بتقويض قدرات حماس القتاليَّة، وتحييدها عن معارك أكبر وأهم، أعني بذلك القتال على جبهات أخرى، وهنا سرعان ما يتبادر إلى ذهننا «الجبهة الشماليَّة» أي مع لبنان لتقويض قدرات حزب الله القتالية،  والتي يبدو أن إسرائيلي متعطِّشة لها، ومرَّت سنوات وهي تستعد لها، وهذا ما يستشف من حجم الحشود العسكريَّة على الحدود اللبنانيَّة وإخلائها للمُستوطنات المجاورة تمهيدًا لأيَّة مستجدات عسكريَّة لاحقة، وربما لدى إسرائيل غاية أبعد من القتال على حدودها الجنوبية والشَّرقية يتمثل في تحقيق طموحها الدائم في دفع الولايات المتحدة لمشاركتها في ضرب البرنامج النووي الإيراني المقلق لها، ولو أدّى ذلك لفتح عدَّة جبهات.

لبنان الرسمي والشَّعبي متعاطف مع الشَّعب الفلسطيني، والذي يعاني من وجود ما يزيد عن خمسماية نازح فلسطيني على أرضه، كما وجود عدد كبير من المخيمات التي تخرج أمنيًّا عن نطاق سيطرته، وتحتوي على مئات المقاتلين المنضوين في العديد من المنظمات الفلسطينية ومن بينها حماس، ولكن، في المقابل أهل السُّلطة كما الشَّعب اللبناني يتوجسون من إطالة فترة الحرب في غزَّة خشية اندلاع الحرب ما بين إسرائيل وحزب الله، ومصدر القلق يكمن في طبيعة التَّحذيرات الجديَّة التي أرسلها المسؤولون الغربيون، كما ارتفاع وتيرة القصف المتبادل بين الجهتين واتساع نطاقها، على الرغم من أن تبادل النار لم يزل محصوراً باستهداف القوى والمراكز العسكرية المنتشرة على ضفتي جبهة الحدود، ويكاد يكون مضبوطًا بعض الشيء.

إيران التي تنصلت من العمليَّة بعيد تنفيذها، يبدو أنها كما حماس وحزب الله قد فوجئت أيضًا برد الفعل الأميركي والغربي، والتعاطف مع الكيان الإسرائيلي والمبادرة فوراً إلى توفير الدَّعم السياسي والعسكري اللامحدودين له، كما فوجئت بسرعة الإستجابة للطلبات الإسرائيليَّة لتوفير ما يلزم من أسلحة وذخائر متطورة ونوعيَّة، كذلك بسرعة وحجم الحشودات العسكرية «أساطيل بحرية وحاملات طّائرات إلى المنطقة. لذا سارعت إلى رمي الكرة على الدُّول العربيَّة وبخاصَّة كل من مصر والمملكة العربية السعوديَّة وقطر للعمل على تهدئة الأوضاع ومنع الأمور من التَّفاقم، ولكنها بذات الوقت تعمل بالتَّوازي لحجز دور لها في المفاوضات على وقف الحرب أو السلام الدائم، عبر مطالبتها في تدخّل منظمة دول التعاون الإسلامي عوضاً عن جامعة الدول العربيَّة، وإن كانت حريصة على الإبقاء على المناوشات العسكريَّة على غرار ما يقوم به حزب الله، كما باقي أذرعها في ضربهم للقواعد والمعسكرات الأميركيَّة في المنطقة، محاولةً الإيحاء بأن أي محاولة ضرب مشروعها النووي أو أي من منشآتها العسكرية الأساسيَّة ستكون عواقبه وخيمة ولن تكون مجرد ضربة خاطفة أو نزهة.

لنعد لحجم الأساطيل وحاملات الطائرات التي تم استقدامها، كما لتعزيز القواعد الأميركية في كل من سوريا والعراق، وإصرار إسرائيل على تعطيل مطاري دمشق وحلب، والحشودات الإسرائيليَّة على امتداد الجبهة الشماليَّة، بموازاة خلو الأجواء الدُّبلوماسيَّة من أيَّة مقاربات لحل سلمي لغاية الآن، وكثرة التَّهديدات والتَّحذيرات التي يتعرض لها القادة العرب، وبخاصَّة ما يصل إلى لبنان بالتَّواتر، واقتصار المطالب العربيَّة على استجداء إيصال حفنة من المساعدات مقارنة بحجم الكارثة الإنسانية، وغياب أي دور عربي فاعل، وانعدام فرص تدخل جيوش عربيَّة في القتال، وغير ذلك من الأمور، جميعها تغلِّب فرضيَّة قيام الكيان الإسرائيلي بمفاجأة الجميع وفتح الجبهة الشَّماليَّة، وقيام القوات الجوية الأميركية والإسرائيلية سويَّةً بضرب المفاعل النويي الإيراني، وبعض المنشآت العسكريَّة الإيرانيَّة وربما المرافق الحيوية في إيران، وتقويض قدراتها القتاليَّة، ومن ثم التَّفرغ لمناوشات مع باقي أذرعها وتقويض قدراتها القتالية وإن استغرق ذلك بعض الوقت.

هذا التَّصور مجرَّد سيناريو ينبغي أخذه بعين الاعتبار لأننا أمام عدو يتميَّز بمكره وغدره، وهو لن يجد فرصة سانحة أكثر مما يحظى به اليوم من دعم وتأييد منقطعي النَّظير، وحشود عسكريَّة، يقابلها شلل عربي سياسي وعسكري، وقد يراها فرصةً لن تتكرر أو لا تدوم.

وأختتم بدعوة صادقة للمسؤولين في الدَّولة كما للمقاومة، بالاستعداد للحرب، ولكن مع توقي الانزلاق حيث يرغب الإسرائيليون إلى جرِّنا، لذا أرى من الأهميَّة بمكان نشر المزيد من وحدات الجيش اللبناني على تخوم الحدود مع فلسطين المحتلة، على أن تتمركز قوى المقاومة كظهير وداعم له، وفي هذا نفوت على إسرائيل فرصة الانقضاض على لبنان، خاصة وأن المناوشات العسكريَّة لن تنفع فلسطين ولا حماس، لكون تأثيراتها العسكرية محدودة في ظل الخيارات العسكريَّة الكبرى.