إذا كانت الأنظار كلّها متّجهة إلى غزّة لترقّب بدء الهجوم البرّي الإسرائيلي لتنفيذ قرار القضاء على حركة «حماس» الفلسطينية، فهل يمكن أن تحصل المفاجأة وتتدحرج المواجهات الحاصلة عند الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية إلى حرب واسعة، بحيث تنقلب التوقّعات ويكون لبنان هو ساحة الحرب في المواجهة بين إسرائيل و«حزب الله»، بينما الظاهر يوحي وكأنّ هناك ضغطاً أميركياً لتجنّب مثل هذه الحرب؟
الأحد 21 أيار الماضي، قبل أربعة أيام من ذكرى انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان قبل 23 عاماً، أجرى «حزب الله» مناورات عسكرية في منطقة عرمتى في الريحان قرب جزين، وعلى بعد نحو 20 كلم عن الحدود، ودعا وسائل الإعلام المحلية والعالمية إلى تغطيتها. كانت تلك المرة الأولى التي يحصل فيها مثل هذا الأمر، فقد اعتاد «الحزب» على إحاطة قدراته العسكرية بالسرية. فلماذا اختار محاكاة العالم كلّه من خلال تلك المناورة؟
لماذا لم يعبُر؟
عنوان المناورة كان واضحاً وبارزاً: «سنعبر»، وشارك فيها نحو 200 من عناصر «الحزب» الذين استخدموا الأسلحة الفردية والمتوسطة والثقيلة، واستعرضوا راجمات الصواريخ، فضلاً عن محاكاة افتراضية لعملية اقتحام الخط الأزرق، والدخول إلى منطقة الجليل التي تحتلها إسرائيل عبر تفجير الجدار الفاصل. ونفّذ العناصر الذين كانوا ملثّمين أو موّهوا وجوههم باللونين الأسود والأخضر، محاكاة لهجوم بطائرات مسيّرة على أهداف داخل إسرائيل، ومهاجمة عربات عند المقلب الآخر، قبل سحب «جثة» من إحداها ونقلها عبر الحدود. ونفّذ عدد من العناصر رمايات على أهداف رُسِمت عليها نجمة داود، بينما قام مسلّحون على دراجات نارية، أو عربات ATV، بمناورات إطلاق رصاص حيّ نحو أهداف.
وعرض «الحزب» خلال المناورات أنواعاً مختلفة من الأسلحة الخفيفة والثقيلة، كراجمات الصواريخ والعربات المزودة برشاشات ثقيلة أو مدافع مضادة للطيران، إضافة الى صواريخ مضادة للدروع وأخرى تطلق من على الكتف. ورُفع في المكان جدار اسمنتي عالٍ مماثل للجدار الذي رفعته إسرائيل عند الحدود مع لبنان، وكتبت عليه شعارات «قادمون» قرب صورة لمسجد قبة الصخرة، و»قسما سنعبر» و»بأس شديد».
وعقب انتهاء المناورة، قال رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله هاشم صفي الدين: «شاهدتم اليوم جزءاً رمزياً من جهوزية المقاومة»، ووجّه تهديداً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقول: «إذا فكّرتم في توسيع عدوانكم للنيل من المعادلات التي صنعناها بدمائنا وقدرتنا، فسنكون جاهزين لنمطركم بصواريخنا الدقيقة وكل أسلحتنا، وستشهدون أياما سوداً لم ترَوا لها مثيلاً»، واعتبر أنّ «لا ضرورة لعرض الصواريخ الدقيقة، لأنّ العدو سيرى فعلها في قلب كيانه إذا ارتكب أي حماقة يتجاوز فيها قواعد اللعبة».
سبق للأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله أن حذّر اسرائيل مراراً خلال الأعوام الماضية، من أنّ «الحزب» قد يطلب من مقاتليه اقتحام الجليل في أي حرب مقبلة، وأعلن في أكثر من مناسبة أنّ الكيان الإسرائيلي آيل إلى الزوال، وأنّ نهايته اقتربت، وأنّه أوهن من بيت العنكبوت. ولكن المفاجأة جاءت من غزّة في 7 تشرين الأول في عملية «طوفان الأقصى».
أقدمت «حماس» وتراجع «الحزب»
قبل هذه العملية التي أوقعت خسائر فادحة بالجيش الإسرائيلي والمستوطنين، وهزّت الدولة العبرية وأمنها وصورة جيشها، كانت حركة «حماس» قد أجرت مناورات كثيرة قبل مناورة «حزب الله»، وبالتزامن معها تحاكي فيها عملية هجوم تستهدف المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بغزّة وقد استُخدمت فيها الأساليب والوسائل نفسها تقريبا التي استخدمها «حزب الله».
فلماذا أقدمت «حماس»؟ ولماذا لم يُقدِم «الحزب»؟ وإذا كانت عملية «حماس» قد حقّقت هذه النتائج وكادت تقلب المقاييس والموازين العسكرية، فماذا كان سيحصل لو أنّ «حزب الله» نفّذ في التوقيت نفسه هجوماً مماثلاً واخترق الخط الأزرق ودخل المستوطنات الإسرائيلية وأوقع الخسائر بالجيش الإسرائيلي والمستوطنين وأسر العديد من الجنود؟ وهل كان مثل هذا الهجوم من الشمال يسمح بالبقاء في المناطق التي اقتحمها مع «حماس» والتوغل مسافات أكبر داخل الكيان الإسرائيلي؟ ثمّة من يعتبر أنّ مثل هذا الأمر، لو حصل، لكان أربك الجيش الإسرائيلي بشكل يفوق إرباكه نتيجة عملية غزة بعشرة أضعاف خصوصاً أنّ عامل المفاجأة كان حاسماً في مثل هذه العملية.
بين تموز وتشرين
في 2 أيلول الماضي كانت لافتة صورة استقبال السيد نصرالله للأمين العام لـ»حركة الجهاد الإسلامي» زياد النخالة ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» صالح العاروري. كان نصرالله يجلس في الوسط بينما جلس ضيفاه إلى يمينه ويساره، وكان هناك علم لبنان إلى يسار الصورة، وعلم «الحزب» إلى اليمين. في 25 تشرين الأول الحالي استقبل نصرالله العاروري والنخالة في مكان مختلف عن المكان الذي استقبلهما فيه في 2 أيلول. ولكن الضيفين كانا يجلسان على مقعد مواجه له بغياب أي علم لبناني وتحت صورتين للإمام الخميني والسيد علي خامنئي. بين الصورة التي أخذت قبل 7 تشرين الأول والصورة الأخيرة ثمة اختلافات كثيرة في المواقع على الأرض وفي المعطيات. بينما تواجه حركة «حماس» قدرها ضد الهجوم الإسرائيلي الكبير، يكتفي «حزب الله» بعمليات عند حدود الخط الأزرق.
ثمّة أسئلة تُطرح بعد كل هذه التطورات. هل كان من المخطّط له أن تكون هناك عملية مشتركة بين الحزب و»حماس» في 7 تشرين الأول، كما حصل بين الجيشين المصري والسوري في حرب 6 تشرين الأول 1973؟ وهل تراجع الحزب عن هذه الخطوة؟ وإذا لم يكن هناك مثل هذا الإتفاق فما هي مبررات عدم وجوده، طالما أنّ «الحزب» كان يعلن رغبته بمثل هذه العملية؟
أفقدت عملية «حماس» عنصر المفاجأة الذي كان يمكن أن يتمتع به «حزب الله». خلال حرب تموز 2006، التي فاجأت «الحزب» أيضاً لأنّه لم يكن يتوقّع ردّة فعل بهذا الحجم، قاتل «الحزب» كمجموعات متحرّكة في التحام على الجبهات مباشرة مع الجيش الإسرائيلي الذي كان يحاول التقدم على أكثر من محور، بالإضافة إلى عمليات القصف التي كان ينفّذها وتستهدف مواقع وأحياء في الضاحية الجنوبية وسائر المناطق اللبنانية، ومن بينها أهداف تابعة للجيش اللبناني.
وفي المقابل كان «الحزب» يردّ أيضاً بإطلاق الصواريخ. وقد استمرّت العمليات على مدى 33 يوماً قبل صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الذي قضى بوقف العمليات العسكرية. منذ ذلك التاريخ التزم «الحزب» وإسرائيل بما سمياه قواعد الإشتباك المتماثلة. ما يحصل على جبهة الجنوب منذ 7 تشرين الأول الحالي يتخطّى هذه القواعد ولكنّه لا يصل إلى مستوى الحرب الشاملة. على مدى 21 يوما تكبّد «الحزب» خسائر فادحة في الأرواح تتخطى نسبياً ما تكبّده في حرب تموز. ثبات خطوط التماس والإشتباك حول «الحزب» إلى قتال المواقع التي تفوّقت فيها إسرائيل عليه. وهذا الوضع لا يمكن أن يخدمه ولا يمكن أن يستمرّ بالقبول به. ولذلك من الممكن أن لا يستمرّ الوضع كما هو. فمن سيكسر هذا «الروتين» العسكري؟
صمت ورسالة وهدف
صحيح أنّ السيد نصرالله أعلن دائماً أنّه لا يحتاج إلى غطاء داخلي ولا إلى إجماع وطني، وأنّه وحده يتحكّم بقرار الحرب. وصحيح أنّ الكثيرين ينتظرون كما يقولون متى يحرّك إصبعه، ولكن في الواقع على الأرض يتصرّف «الحزب» وكأنّه لا يريد أن يوسّع دائرة القتال. وثمّة من يعتبر أنّ قرار دخوله الحرب لنجدة «حماس» لن يكون قبل الهجوم البرّي الإسرائيلي لتخفيف الضغط عنها.
ولكن هناك من يعتبر أيضاً أنّ إسرائيل قد تؤجّل الهجوم البري على «حماس». فهي تعتبر أنّها تمكّنت من احتواء الوضع العسكري هناك، ووضعت «حماس» تحت المراقبة، وأمسكت بالمبادرة، ويمكنها أن تجمّد الوضع طالما أنّها تمتلك التفوّق العسكري والغطاء الدولي. ولذلك قد تبدّل في استراتيجية الحرب بحيث تنصرف إلى تصفية الحساب مع «حزب الله» أولاً لأنّه يبقى يشكّل الخطر الأكبر عليها. وبالتالي يمكن أن تنتقل إلى الجبهة الشمالية وتفتح هي الحرب قبل أن يبادر «الحزب» إلى هذه الخطوة ويعيق تحرّكها في غزّة.
في حرب تموز، كان نصرالله يكثر من إطلالاته ورسائله على رغم أنه تخفّى، واختبأ وتنقّل في أكثر من مكان. منذ 7 تشرين الأول آثر الصمت. الرسالة الوحيدة التي وجهها بخطّ يده كانت لإضافة عبارة «على طريق القدس» في بيانات نعي مقاتلي «الحزب» التي غابت عنها أي علاقة بلبنان واقتصرت على الإنتماء الديني والجهادي. هذا الإنتماء يختلف عقائدياً عن انتماء حركة «حماس» الديني والجهادي.
بين 2013 و2017 حصل افتراق كبير بين «حماس» والحزب وكانا يتقاتلان على ساحة الحرب السورية. بعد العام 2017 عادت العلاقة لتنتظم وكان رهان «الحزب» بعد الإنقلاب على خالد مشعل في «حماس»، على موقع رئيس المكتب السياسي اسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري الذي يبدو أنّه في المرتبة الثانية ولكنّه في الموقع الأول من حيث القرار والعلاقة مع «الحزب».
على عكس التهديدات الواثقة التي كان يطلقها نصرالله، يبدو اليوم أنّه في تراجع عن تنفيذها. ومن غير الواضح ما إذا كان هذا التراجع ناتجاً عن خوف من نتائج مثل هذه الحرب وهذا التحشيد الإسرائيلي والدولي، أم من دراسة التوقيت المناسب لدخولها. ولكن في الحالتين هل تكسر إسرائيل المعادلة القائمة وتطيح بقواعد الإشتباك وتذهب إلى حرب واسعة وقاسية ضد الحزب؟ ثمة من يعتبر أنّ إسرائيل لن تتوانى عن مثل هذا الأمر في حال تمكّنت من توجيه ضربة أولى قاسية إلى «الحزب» تختار هي هدفها ومكانها وزمانها وتضمن نجاحها.