قد تؤدي نهاية الحرب إلى إطلاق مسار حل الدولتين ونقل المنطقة من الحرب إلى السلم، وقد تؤدي إلى مزيد من الشيء نفسه. وبمعزل عن المسار الأول او الثاني يجب ان تكون حرب غزة منطلقاً لمسار جديد الأولوية فيه لمصلحة الناس والشعوب لا المعركة والحرب.
ما يحصل في غزة يعيد النقاش حول جدوى مقاومات تقوم بعملية عسكرية يستتبعها دمار ما بعده دمار من دون ان تتمكّن من تحقيق أي هدف سياسي، ولكن المشكلة ان المقاومة السلمية لم تثبت، في الوقت نفسه، قدرتها على تحقيق أهدافها بقيام دولة فلسطينية سيّدة على أرضها، إنما إذا كان المشترك بين المقاومة العسكرية والسلمية عدم تحقيق الأهداف، إلا انّ الفارق كبير جدا بين مقاومة تقوم بعملية يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني موتا ودمارا وخرابا، وبين مقاومة ترفض التسليم بالأمر الواقع بانتظار الظروف المناسبة ولكن شعبها يعيش في استقرار وأمن وهناء.
وإذا لم تفكِّر «حماس» في اليوم التالي لعمليتها العسكرية في 7 تشرين الأول فهذه مصيبة، وتعني ان هذا الفصيل لا يكترث لموت شعبه ودمار المنطقة التي يسيطر عليها، وذلك تماماً كما فعل «حزب الله» في اختطافه للجنديين الإسرائيليين في العام 2006، فكانت النتيجة دمارا كارثيا للبنان. وبالتالي، ماذا ينفع ان تكون العملية العسكرية ناجحة إذا كان ما سيستتبعها كوارث وأهوال وخراب، خصوصا ان ردة الفعل الإسرائيلية أصبحت معروفة وتشكل القاعدة لردودها المدمرة؟
فلو كانت عملية «حماس» جزءاً من مخطّط لمحور الممانعة يقود إلى دخول كل مكوناته دفعة واحدة في الحرب سعياً لخلق وقائع جديدة على حساب إسرائيل لكان ذلك مفهوما، ولكن ان تكون العملية تنفيذاً لرغبات إيران بضرب مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب فهو غير مفهوم، او تنفيذا لرغبات «مقاوماتية» تعبيرا عن وجود ودور فهو بدوره غير مفهوم، لأنّ اي عملية يجب ان يسبقها التفكير بما سيليها، وخلاف ذلك يعني ان هذه المقاومات تستخدم دماء الناس تحقيقا لأهدافها التي لا علاقة لها بهؤلاء الناس وتتّخِذ من الشعوب دروعا لمشروعها الممانع.
وردّ الفعل الإسرائلي على عملية «حماس» كان متوقعا، وإذا لم تتوقّع «حماس» ردّ الفعل الحاصل فيجب ان تعتزل العمل العام، وماذا ينفع الشعب الغزّاوي الذي تتم إبادته الكلام عن عملية عسكرية نوعية نفّذتها «حماس»؟ لا شيء طبعا، ولا بل أساءت هذه العملية للقضية الفلسطينية من ثلاث زوايا أساسية:
أولاً: أعادت عملية «حماس» إيقاظ الشعب الإسرائلي على أولوية أمنه وجيشه وقوته وردعه، وانّ استمراريته ترتبط بقوته على الردع، وسيشهد الجسم العسكري الإسرائيلي ما بعد انتهاء الحرب تغييرات بنيوية وتجديداً للعقيدة القتالية التي سيكون محورها التعبئة المستدامة، وبعد ان دخل المجتمع الإسرائيلي في استرخاء أعادت هذه العملية استنفاره لعقود مديدة.
ثانياً: أعادت عملية «حماس» توحيد الجسم الإسرائيلي المنقسم منذ سنوات في حكومات لا تحوز على الثقة الشعبية ولا قدرة لها على الاستمرار، وفي ظل انقسام يطال كل مكونات المجتمع، والوحدة اليوم لن تقتصر على حكومة الحرب، إنما ستتعداها إلى وحدة صف وموقف لا يستفيد منها الخصوم.
ثالثاً: أعادت عملية «حماس» توحيد العالم الغربي خلف إسرائيل فمنحتها الضوء الأخضر دفاعاً عن وجودها على أثر عملية وصَفتها بالأسوأ بعد الهلوكوست، فيما كان يقف هذا المجتمع ضد الحكومة الإسرائيلية المتطرفة وسلوكها الانعزالي.
فما قبل 7 تشرين كان الجسم الإسرائلي منقسماً في أزمة خيارات وسياسات وتوجهات وأهداف وصفوف، وكان الجسم الفلسطيني في موقع المتفرِّج من دون ان يتكبّد الأثمان ولا ان يتنازل عن مطالبه المحقة، ولكن بعد السابع من تشرين استعاد الجسم الإسرائلي وحدته وتشدُّده مَدعوماً من العالم الغربي.
وأصبح واضحاً ان إسرائيل لن تنصاع الى قرار مجلس أمن او غيره لوقف إطلاق نار تستفيد منه حركة «حماس» وتستثمره، إنما ستواصل عمليتها العسكرية حتى القضاء على هذه الحركة التي يرمز استمرارها في غزة إلى التهديد الوجودي لإسرائيل، ولكن ما هو غير واضح بعد يتعلّق بمدى قدرة تل أبيب على تحقيق أهدافها بإزالة الخطر الذي يتهددها إن من داخل كيانها او على حدودها؟
وبمعزل عن سيناريوهات ما بعد انتهاء الحرب وما إذا كانت ستقود إلى حلّ الدولتين أو إعادة رسم معالم المنطقة او إلى الجزر الإيراني بعد مدّ بدأ مع أحداث 11 أيلول 2001، وبالتالي بمعزل عن كلّ ذلك، فإنّ النقاش الفلسطيني واللبناني يجب ان يتركّز حول الجدوى من مقاومات تصادر قرار الدولة وتعطِّل البلد وتمنع الإصلاح وتعمِّق الانقسام، ومتى قررت القيام بعملية عسكرية ضد إسرائيل لاعتباراتها المصلحية تكون النتيجة دمار بدمار.
فما أظهَرته عملية «حماس» ان نظرية توازن الرعب غير موجودة، وان هذا التوازن لا يردع الاعتداءات الإسرائيلية، وان مجرّد تجاوز الحركة لقواعد الاشتباك بين الطرفين أدى إلى تدمير غزة على رؤوس أهلها، وما ينطبق عليها ينسحب على «حزب الله» ولبنان، فهذا الوهم المسمّى توازن الرعب يسقط في اللحظة التي يتجاوز فيها الحزب قواعد الاشتباك فيتم تدمير لبنان على رؤوس أهله على غرار ما حصل في العام 2006.
وما همّ أهل غزة إذا أعلنت «حماس» انتصارها على أرض محروقة، وما همّ أهل لبنان إذا أعلن «حزب الله» انتصاره على أرض محروقة؟ فالمواطن الغزاوي واللبناني ينتظر مَن يُجنِّبه الموت والدمار وليس من يجرّه إلى الموت والدمار تحقيقا لانتصارات وهمية.
وقد أسقطت حرب 7 تشرين ثلاث مقولات: مقولة وحدة الساحات، مقولة توازن الرعب، ومقولة ان المقاومة العسكرية هي الحلّ. فإذا لم تتوحّد الساحات بعد عملية غير مسبوقة وما نَجم عنها من حرب مدمّرة فمتى تتوحّد؟ ولقد تبيّن ان الوحدة ليست في الساحات بل في الدمار والخراب. أمّا توازن الرعب فهو مجرّد حجة لميليشيات خارج الدولة، حيث ان الناس تريد مِن توازن الرعب تجنيبها الدمار، وهذا التوازن وهم إذ إنه في اللحظة التي يقرِّر فيها الحزب توسيع نطاق عملياته ضد إسرائيل سيتكرّر مشهد حرب تموز، وهذا ما يجعله يُوازِن بين عمليات محسوبة بدقة لكي لا يقال انه تخلى عن «حماس»، وبين عدم اتّساع رقعة المواجهة لغاية اليوم تجنّباً لتكرار سيناريو تموز. وما يجب ان يخضع لنقاش فعلي انّ المقاومات العسكرية ليست الحل على الإطلاق، ولا بل تَستجِر الدمار والموت من جهة، وتمنع قيام دول بكل ما تعني كلمة دول من معنى من جهة أخرى.
فدور «حزب الله» مثلاً يتراوح بين استجرار حرب مدمرة على غرار ما حصل في تموز 2006، وبين منع قيام دولة فعلية في لبنان، ولو نفّذ مقولة وحدة الساحات لكان لبنان اليوم في خبر كان. وفي المقابل، فإنّ عدم تنفيذه هذه المقولة يؤدي أكبر خدمة لإسرائيل التي تريد فصل الساحات من أجل ان تتفرّد بقتال «حماس» وإخراجها من غزة، وفي الحالين يُبقي لبنان خاضعاً لقواعد الأمر الواقع بدلا من قواعد الشرعية اللبنانية.
وفي كل مرة ينزلق أحد أذرع الممانعة إلى مواجهة مع إسرائيل يَتكئ فيها على التدخُّل الخارجي لوقف الحرب، وعلى قتل الأبرياء لتسريع وقف الحرب، وعلى سحب الخارج لمظلته السياسية للحرب. وبالتالي، يتكئ على بقاء تنظيمه على حساب بقاء الشعب والبلد الذي ينطلق منه.
وبمعزل عن دينامية الحرب التي الكلمة الفصل لها وحدها اليوم، فإنّ ما بعد الحرب يجب ان يخضع لنقاش صريح ومعمّق، وعلى رغم المعرفة المسبقة بأنّ الممانعة لن تبدِّل في نهجها المُتمثِّل إن بالخطاب الايديولوجي عن مقاومات تشكل وحدها الحلّ أو انّ إزالة إسرائيل من الوجود يبقى هو الهدف وعملية غزة أكدت قرب تحقيقه أو انّ مواصلة ثنائية ميليشيا تُمسك بقرار الحرب ودولة وظيفتها تنظيم السير يجب ان يبقى القاعدة في دول الممانعة، فإنّ ما بعد 7 تشرين لا يجب ان يكون كما قبله، ليس فقط كَون حجج الممانعة سقطت دفعة واحدة، إنما لأنّ الناس تريد العيش وتجنُّب الموت والدمار، وحان الوقت للتفكير العقلاني لا الغرائزي ولا الممانع لكيفية تحقيق هدف الدولتين الذي لا يمكن ان يتحقّق عن طريق الإبادة الحاصلة.