ما يقارب الشّهر من التوحّش وقتل الأبرياء من أطفال ونساء، لم نشهد من قبل أباً يحمل أشلاء أولاده في كيسيْن ويرفعها في وجه العالم، في لبنان اختبرنا جيش العدو الإسرائيلي ومجازره، كلّ ما نراه في غزّة سبق ورأيناه في كلّ حرب خاضتها إسرائيل على الشعب اللبناني، حتى التهديد بقصف المستشفيات سبق وفعلته عندما قصفت مستشفى المقاصد في العام 1982، كلّه شاهدناه، حتى هذا العالم البغيض الكريه الصامت الذي ظلّ يؤيد القاتل المجرم واليوم وبعد ما يقارب الشهر بدأ يفكّر بالمدنيّين!
“إذا اتحد الأشرار فعلى الأخيار أن يتحدوا وإلا سقطوا ضحية لهم شاؤوا ذلك أم أبَوْا” [الفيلسوف الإيرلندي إدموند بيرك]، عالم بلا أخلاق، وسياسة بلا أخلاق، قد نكون نعيش ذروة الأزمة في وصول السياسة العالمية إلى الحضيض وتجرّدها من الإنسانية ومن المنظومات الأخلاقية أو الضمير الذي لم يتبقَّ منه ذرّة، من السخرية بمكان أن نكون قد سمعنا قبل مجازر إسرائيل وبعدها من رؤساء كثر تهديدات بأنّ بلادهم ستتدخل ضدّ أنظمة قتل أو أنها أجرت تحقيقات أكدت نتائجها استخدام أسلحة محرّمة، ومع هذا سبق وغضّ العالم الطّرف عن كلّ هذه الجرائم، لم يعد مهمّاً اسم أنظمة القتل سواءً أكانت إسرائيل أم صدّام حسين أم إيران أم نظام بشّار الأسد أم النظام الراوندي أو نظام كوريا الشماليّة، الاسم ليس مهمّاً بقدر أهميّة سقوط كلّ العناوين البحثيّة والتنظيريّة للحديث عن أخلاق السياسة أو السياسة والأخلاق أو جدلية العلاقة بين الأخلاق والسياسة، أو الأخلاق والسياسة وفلسفة الحكم، سقطت كلّ هذه العناوين على عتبة انعدام أي ضابط أخلاقي يحكم السياسات في العالم!
ولا أظنّ أن تعريف المجتمع اختلف كثيراً عمّا قاله بيرك في تعريفه للمجتمع الطبيعي بأنه: “مجتمع أساسه الرغبات والغرائز الفطرية لا أي نظام وضعي… فتطور القوانين كان انحطاطاً… وما التاريخ إلا سجل للمجازر والغدر والحرب، والمجتمع السياسي متهم بحق بأكبر قسط من هذا الدمار… وكل الحكومات تتبع المبادئ المكيافيلية، وترفض كل الضوابط الأخلاقية، وتعطي المواطنين مثالاً مفسداً للجشع والخديعة واللصوصية والقتل. والديموقراطية في أثينا وروما لم تأتِ بعلاج لشرور الحكم، لأنها سرعان ما انقلبت دكتاتورية بفضل قدرة زعماء الدهماء على الظفر بإعجاب الأغلبيات الساذجة… أما القانون فهو الظلم مقنناً، فهو يحمي الأغنياء المتبطلين من الفقراء المستغلين”!
يقول بيرك: “هناك علاقة شراكة ليس بين الأحياء فحسب، ولكن بين الأحياء والأموات والذين سيُولدون أيضاً”، القتل مسار طويل ومستمرّ للبشريّة، ليس عبثاً القول إن القتل أصبح روتيناً يوميّاً، وبحسب أحد الباحثين المعاصرين فإنّ أربع مناظرات كبرى أجريت في هذا القرن والمشاركين فيها كانوا من القرن الثامن عشر ومن القرن العشرين، وهما إدموند بيرك المهموم بالثورة الفرنسية وتوماس بين المهموم بالثورة الأميركيّة، في كتابه “حقوق الانسان” (1791) يحاول توماس بين الحفر فى التاريخ حتى يصل إلى الحالة الطبيعية التى كان عليها الانسان قبل تأسيس المجتمع حيث كان مجرد فرد بلا علاقات اجتماعية. ولم يتأسس المجتمع بعد ذلك إلا عندما شعر البشر بأنهم فى حاجة إليه لمواجهة الضرورات مع الرغبة فى العيش مع الآخرين. بل لم تتأسس الحكومة فوق المجتمع إلا من أجل انقاذ البشر من تفشى الشرور، هذه نظريّةٌ من القرن الثامن عشر كشف القرنين التاليين بأنّها مجرّد نظريّة لأنّ العالم وحكوماته غارقون في دماء الشعوب والتآمر عليها وقتلها وأن هذا العالم سيبقى يئنّ تحت وطأة جريان هذه الدماء بحروب عالمية دفعة واحدة أو بالتقسيط كالتي أغرقتنا في تسعينات القرن الماضي ولا تزال، وستبقى!