وقع كلام أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي كالإكسير على قلوب اللبنانين سواء الذين غنوّا له: «منشان الله يا سيد يللا، سيد حسن يا الحبيب إضرب دم بتل أبيب»، أو من الجبهة المقابلة المعادية أو المخاصمة لتوجهاته وحزبه والتي طالبته بعدم إقحام لبنان في حرب غزة ووضعت «هاشتاغات» منها: «اللبنانيون لا يريدون الحرب». أعتقد الفريقان وكلّ على نيّاته، بأن أمين عام حزب الله سيجرّد حملة ضد إسرائيل من لبنان، وبأن قوات الرضوان النخبوية ستعبر الى الجليل إيذانا بالحرب الكبرى. لكنّ الأمين العام لحزب الله بدا متخففا من هذا الفريق وذاك، وكالعادة بدا خطابه المحبك بإبرة من ينسج الحرير بأن العقل البارد لحزب الله ينتصر دوما، وبأن مقولة «حزب الله يختار توقيت معاركه» هي صحيحة وليست شعارا، وعلى عكس هذه المقولة غابت عن خطاب الأمين العام عبارة «وحدة الساحات» التي تصدّرت خطاباته منذ نيسان/ ابريل الفائت حين بدأت غزوات المستوطنين على المسجد الأقصى، فلم ينطق بها مرّة واحدة في خطابه أمس الجمعة الذي انتظرته الدول العظمى والاقليمية وإسرائيل وقيادتها وشعبها بطبيعة الحال، وأيضا اللبنانيون من الفريقين المؤيد والمناوئ وقد وضعوا أيديهم على قلوبهم وتسمّروا أمام الشاشات في انتظار إعلان الخيار الصعب. ولمّا نطق السيد نصر الله بخطابه ولم يعلن الحرب فوريا، تاركا خياراتها مفتوحة في خطاب سياسي يصحّ توصيفه بالسهل الممتنع، هدأ الجو في لبنان، وبدأ التنظير على نصر الله وحزب الله، وراح كلّ فريق يجرّد الحملات المضحكة وغير الموضوعية في كلا الحالتين.
حماس تفرّدت… فدحضت «وحدة الساحات»
أصاب أمين عام حزب الله عندما قرر أن يصارح العالم، وإسرائيل وقيادتها واللبنانيين بأن قرار القيام بعملية طوفان الأقصى هو قرار لحركة حماس وحدها، فقال: «إن هذه العملية العظيمة والمباركة والواسعة كان قرارها فلسطينيا مئة بالمئة، وكان تنفيذها فلسطينيا مئة في المئة، وقد أخفاها أصحابها عن الجميع، عن الفصائل الفلسطينية حتى عن فصائل المقاومة في غزة، فضلا عن بقية دول وحركات محور المقاومة، وهذا ضمن سريتها المطلقة وهذه السرية المطلقة هي التي ضمنت نجاح العملية الباهر من خلال عامل المفاجأة المذهلة». طبعا، حبك السيد نصر الله هذه العبارة بكثير من التروّي وبأطنان من الدبلوماسية، وإذا نزعنا عنها هاتين الصفتين يمكننا أن نفسر كلامه كالتالي: حماس اتخذت قرار المواجهة لوحدها، لم تحترم التشاور أو ما نسميه وحدة الساحات، وهذا ما يفسر انتظار الأمين العام للحزب 28 يوما قبل أن يدلي بدلوه في ما خص عملية طوفان الأقصى. ثم اكمل في خطابه قائلا بأن «نجاح العمل ليس له أي تأثير سلبي على الاطلاق على أي قرار يتخذه فريق أو حركة مقاومة في محور المقاومة». في هذه العبارة أيضا، يتخفف السيد نصر الله من أي ارتباط لحزب الله ببقية الحركات عائدا الى استقلالية كل حركة.
في هذا السياق، تستوقف بشدّة ردود الفعل الشاجبة لإعلان الأمين العام في سياق خطابه بأن الجبهة اللبنانية ستبقى جبهة مفتوحة ضمن قواعد محددة، ولو انه عاد وأعلى معادلة «المدني في مقابل المدني». وبالتالي، فإن ردود الفعل لبعض الكتّاب والمغرّدين والتي سارعت الى شجب عدم خوض الحزب في الحرب المدمرة في غزة، والتي سترتب على لبنان تداعيات كارثية وسط انهيار اقتصادي تاريخي، تثير تساؤلات عما إذا كان تفرّد حركة حماس بقرار خطير الى هذا الحد يعني بأن قرارها ليس عند إيران، وإذا صحّ ذلك، فإنه يحتاج الى تدقيق أكبر بمقولتين بأن الجناح العسكري هو عند إيران والسياسي عند قطر، وثمة تساؤل لا يمكن تجاوزه عما إذا كان هذا القرار لمن يقف خلف حركة حماس قد اتخذ لاستدراج حزب الله لمعركة مدمّرة له وللبنان في توقيت مريب؟
لماذا كل هذا الشجب لعدم اندفاع الحزب في خوض حرب شرسة لم يختر توقيتها، ولم يدرس تداعياتها ونتائجها العسكرية والأمنية والإنسانية؟
صحيح أن السيد نصر الله قال في خطابه متوجها الى الشهداء وعوائلهم بأن هذه المعركة مع الصهاينة لا غبار عليها على المستوى الإنساني والأخلاقي والشرعي، لكن هذا لا يلغي البتّة بأن ثمة تساؤلات عن توقيتها ومن اتخذ القرار الفعلي لإطلاقها وما خلفياته السياسية والعسكرية ومن كان يستهدف؟ إسرائيل أم حزب الله؟ أم لديه مشروع آخر وخرائط أخرى يعمل عليها؟
لقد تصرف الأمين العام لحزب الله بروح مسؤولية عالية، تجاه بيئته الحاضنة التي في قرارتها تخشى الخوض في حرب مدمرة كما تجاه جميع اللبنانيين.
لبنان سبق العراق واليمن… وجبهته مفتوحة منذ 8 أكتوبر
في سياق الجبهة اللبنانية، وبينما كان المصفّقون والمنتقدون على حدّ سواء ينتظرون أن يعلن السيد نصر الله فتح الجبهة اللبنانية على مصراعيها، فاجأ الجميع بقوله بأن جبهة لبنان مفتوحة منذ الثامن من تشرين الأول/ اكتوبر الفائت، وبأن لبنان هو في قلب المعركة وبالتالي هو سبق العراق واليمن، إذ بدأت العمليات في منطقة شبعا وتلال كفرشوبا بعد يوم من اطلاق عملية طوفان الأقصى وامتدت بعدها الى كامل الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة.
وفي تفسير ينزع القفازات الدبلوماسية عن كلام السيد نصر الله يمكننا القول في تحليلنا أنه كان يطلب من المصطادين في المياه العكرة أن يخرسوا!
استفاض أمين عام حزب الله بعد ذلك في شرح أهمية فتح هذه الجبهة معطيا إياها أهمية غير مسبوقة حين قال: «ما يجري على جبهتنا اللبنانية هو غير مسبوق في تاريخ الكيان، منذ العام 1948، منذ أن كان هنالك مواقع عسكرية إسرائيلية على الحدود مع لبنان، منذ أن كانت هنالك مستعمرات ومستعمرون ومحتلون في شمال فلسطين المحتلة على الحدود مع لبنان لم تحصل حتى خلال حرب تموز»(…). وأشار: «لولا تحريك جبهة لبنان لكانت قوات العدو ستذهب كلها الى غزة، فقد جذبت جبهة لبنان ثلث الجيش الإسرائيلي الى الحدود مع لبنان وقوات النخبة وقوات نظامية وهذه كلها كان يمكنها أن تذهب الى غزّة. ولفت الى أن نصف القدرات البحرية الإسرائيلية الآن موجودة في البحر المتوسط مقابل لبنان ومقابل حيفا، كذلك فإن ربع القوات الجوية مسخّرة باتجاه لبنان وما يقارب نصف الدفاع الصاروخي أي القبة الحديدية والقبة الصاروخية والباتريوت موجهة الى لبنان، وتقريبا الثلث من القوات اللوجستية موجهة باتجاه لبنان كذلك حصل نزوح لعشرات الآلاف من سكان المستعمرات الى الداخل ووصل العدد الى اخلاء 58 مستعمرة».
زرعت هذه الجبهة القلق لدى الأميركيين والأوروبيين الذين وجّهوا عبر سفرائهم رسائل تهديد مما هبّ ودبّ خشية توسيع جبهة لبنان والتسبب بحرب إقليمية، وهذا يعني أن الجهوزية التي تحلّى بها حزب الله بالرغم من عدم مشاركته قرار إطلاق طوفان الأقصى حافظت وحَمَتْ معادلة رسمها منذ أعوام هي معادلة الردع مع العدو. وهذا ما دفع نصر الله الى التهديد والوعيد بثقة متوجها الى القادة الإسرائيليين قائلا بأن أي عملية إسرائيلية في اتجاه لبنان تعني أن العدو سيرتكب أكبر حماقة في تاريخه ووجوده.
في هذا السياق، أربك السيد نصر الله من يدفعون به الى خوض حرب مدمرة، راسما قواعد الاشتباك مع العدو الذي يعرف عقله، وهو وجّه له صفعات جدا خطرة أبرزها حين طلب من المستوطنين أن يدققوا بكيفية سقوط العشرات والمئات منهم بين قتلى وجرحى متهما الجيش الإسرائيلي بارتكابها بعد ارباكه في عملية طوفان الأقصى النوعية، كذلك حين «بشّرهم» بأن تحرير أسراهم لن يحصل بالحرب المستمرة على غزة بل بعملية تبادل كما كان يجري سابقا.
وكان للأميركيين حصتهم من التهديد وقد حمّلهم السيد نصر الله مسؤولية حرب غزة قائلا لهم: «إن أساطيلكم التي تهدّدون بها أعددنا لها عدّتها أيضا».
صحيح بأن السيد حسن نصر الله لم يدق نفير الحرب لكنه لم يكن مطمئنا بشكل كلي، فقال بأن: «أمر هذه الجبهة وتصاعدها وتطوّرها بأي اتّجاه معيّن مرهون بأمرين أساسيين: مسار وتطور الاحداث في غزّة، فهذه الجبهة هي جبهة تضامن، هي جبهة مساندة لغزّة ولذلك تتطور وتتحرك على ضوء الأحداث هناك وما تقتضيه طبيعة الأحداث والتهديد والتطورات هناك. الأمر الثاني، هو سلوك العدو، وهنا مجدّدا أحذّره من التمادي الذي طال بعض المدنيين، فقضوا شهداء، وهذا سيعيدنا الى المدني مقابل المدني». قال السيد نصر الله بأن مسار سلوك العدو في اتجاه لبنان هو أيضا من يتحكم بجبهتنا.
وأشار الى أنه «بكل شفافية وصدق ووضوح وغموض وبناء على كل الاحتمالات في جبهتنا اللبنانية، فإن كل الخيارات مطروحة ويمكن أن نذهب إليها في أي وقت من الأوقات ويجب أن نكون جميعا مهيّئين وجاهزين وحاضرين لكل الاحتمالات والفرضيات المقبلة».