Site icon IMLebanon

ما بدأ في غزة ينتهي في غزة

 

 

وجّهت حركة «حماس» ضربة موجعة لإسرائيل وصورتها وهيبتها، وستبقى هذه الضربة الحدث لفترة طويلة ولكن من زاوية تحليلية، فيما حرب «طوفان الأقصى» ستنتهي في النطاق الجغرافي الذي بدأت فيه.

من كان يتوقّع مثلاً ان توجِّه المقاومة الأوكرانية ضربات موجعة ضد الجيش الروسي الذي سقطت هيبته في أوكرانيا؟ لا أحد، ولكن على رغم ذلك لم يسقط الجيش الروسي ولن تسقط موسكو، وكانت كل التوقعات ان تحسم روسيا المعركة في غضون أيام قبل ان يتبيّن عدم صحة هذه التوقعات وغرق الدولة الروسية في الوحول الأوكرانية، وما حصل في غزة يَندرج في السياق نفسه، حيث نجحت «حماس» في تطوير أساليب قتالية محترفة في سرية تامة، فيما فشلت إسرائيل في استباق الضربة أمنياً، ما يدلّ على ضُعف استخباراتي كبير أدى إلى فشل عسكري طبيعي بسبب وقوعه تحت عامل الصدمة المفاجئة.

 

فما قامت به «حماس» بنجاح باهر مع الساعات الأولى لعمليتها العسكرية انتهى تاركاً لإسرائيل الردّ والحجم الذي يمكن ان يتخذه، وإذا كانت تل أبيب في غير وارد فتح جبهات أخرى عليها سوى في حال قرّر محور الممانعة ترجمة ما كان يهوِّل به تحت مُسمّى «وحدة الساحات»، ففي المقابل ليس هناك مؤشرات تدلّ إلى ان «حزب الله» سيدخل المواجهة المفتوحة إلى جانب «حماس»، لأنّ دخوله لن يفيد بشيء، بل ستكون ارتداداته سلبية جداً على الحزب، وبالتالي ما بدأ في غزة سينتهي في غزة.

 

وبمعزل عن حجم الردّ الإسرائيلي، فإن أحداً لن يتوقّف أمام هذا الردّ الانتقامي، إنما سيبقى ما حققته «حماس» هو الحدث، ولكن حدوده العسكرية انتهت منذ الساعات الأولى لليوم الأول، فيما ارتداداته الفعلية ستكون على الداخل الإسرائيلي لجهة مراجعة أساليب الدفاع والقتال والجهوزية الاستخبارية والعسكرية، حيث ان عسكرها كان في وضعية استرخاء ولم يكن في حسابه انّ «حماس» التي كان قد دخلَ معها في مفاوضات وتنسيق ستقوم بعملية عسكرية مباغتة ونوعية.

 

فما حصل ليس بقليل إطلاقاً، ولكن لا يجب تضخيمه بل وضعه في سياقه الطبيعي لناحية دخوله في سياق الكرّ والفرّ المستمرين، فلا إسرائيل ستتمكّن من القضاء على المقاومة الفلسطينية تحت اي مسمّى، ولا المنظمات الفلسطينية ستنجح في إزالة إسرائيل، وما حصل إذاً يفترض ان يدفع تل أبيب ليس فقط إلى مراجعة قدراتها الأمنية والعسكرية، إنما إلى مراجعة سياساتها التي عزّزت التطرف داخل الجسم الفلسطيني على حساب من وَقّع معها السلام، ولا يمكنها الاستمرار في سياسة تجاهل حقوق الفلسطينيين في دولة سيّدة على أرضها.

ولو التزمت إسرائيل بتعهداتها إزاء السلطة الفلسطينية لكان تأثير المنظمات المتطرفة او المحرّكة من الخارج بقي محدوداً، وكانت المواجهة انحسرت بين هذه المنظمات والسلطة الفلسطينية، وهذا دليل الفشل في السياسات الإسرائيلية التي أدت إلى تحييد السلطة وإضعافها والدخول في مواجهات غبّ الطلب ومباشرة مع المنظمات التي يرتبط توسُّع دورها وحضورها لدى الفلسطينيين بتراجع تل أبيب عن التزاماتها.

 

وما حصل في عملية «حماس» العسكرية سيتكرّر، ولن تكون حدوده أكبر من ذلك، فلا يوجد جيش في العالم لا يُخرق ولا يتلقى ضربات موجعة، إنما يستوعب الصدمة ويعمل على إعادة تحصين وضعيته، وهذا أمر بديهي في مواجهة مفتوحة بين فريقين يعمل كل منهما على تطوير قدراته القتالية، وبالتالي ما حصل عسكريا قد حصل، إنما ماذا عن أبعاده السياسية؟

 

يصعب ان تكون ضربة «حماس» معزولة عن السياق العام في المنطقة المتّجِه أكثر فأكثر نحو التطبيع الثنائي بين إسرائيل والدول العربية، خصوصا ان هذا التطبيع يقود إلى تشديد الحصار على إيران التي تجد نفسها مأزومة في منطقة يعاد هندستها على أسس جديدة وترتبط بشبكة مصالح دولية فيما طهران خارج كل هذه الصورة، لا بل تغرق في أزمات داخلية وتُغرق الدول التي تُمسك بمفاصلها في وحول أزمات مالية وشعبية، وليس من مصلحتها ان يتوسّع الفارق بين دول مزدهرة ومستقرة، ودول مضطربة وفقيرة، إنما كل مصلحتها تكمن في إبقاء القديم على قدمه، لأن تقدُّم المسار التطبيعي سيقود إلى مزيد من عزلتها واتساع الهوة بين دول محور الممانعة ودول محور الاعتدال.

 

وطالما ان طهران ما زالت بعيدة عن الانخراط في التوجُّه الدولي السلمي بسبب عقيدتها المرتبطة بعلة وجودها وسعيها المستمر لنشر ثورتها عسكريًا وأمنيًا، فلن يكون من مصلحتها ان تَستتبّ أوضاع المنطقة بمعزل عنها، لأن استتبابها سيؤدي إلى مزيد من عزلتها وتفاقم أزماتها.

 

ولكن إيران تجد نفسها أمام معضلة حقيقية: فلا هي قادرة على ان تتصدّر المواجهة تجنّباً لردّ مباشر ضدها، ولا في وارد تجميد التفاهم مع المملكة العربية السعودية، ولا من مصلحتها مواجهة الرياض من باب التطبيع مع تل أبيب وانفراط التفاهم المستجد بينهما، ولا في موقع المغامر بخسارة ورقة «حزب الله» من خلال إقحامه بهذه المواجهة، وهذا ما يفسِّر دخول الحزب في المواجهة من خلال قواعد الاشتباك المرسومة بين الفريقين في مزارع شبعا في رسالة غير مباشرة إلى إسرائيل بأنه لن يذهب أبعد من ذلك، وهذا ما تتفهّمَه تل أبيب التي لها مصلحة بدورها في احترام قواعد الاشتباك في لحظة تضع كل تركيزها على الانتقام من «حماس» ومعالجة الخلل الاستخباراتي داخل جسمها العسكري.

 

وما تقدّم يعني انّ أقصى ما تريده طهران هو الحفاظ على الستاتيكو الحالي ومنعه من ان يتطور باتجاه تطبيع شامل مع إسرائيل عن طريق التفاهمات الثنائية التي تتمدّد تباعاً، ولكن ليس باستطاعتها جَرّ المنطقة إلى حرب كونها لن تنخرط مباشرة في هذه الحرب، فتكون رسالة «حماس» بهذا المعنى مثلثة الأضلع:

 

الضلع الأول: انّ إيران ما زالت موجودة ولن تسمح بتحييدها عن المسار الذي يُرسم للمنطقة وسيؤدي بالمحصّلة إلى محاصرتها.

 

الضلع الثاني: محاولة فرملة الاتجاهات التطبيعية وتحديداً التطبيع بين الرياض وتل أبيب، لأنّ هذا التطبيع بالذات يختلف عن غيره ربطاً بحجم المملكة العربية السعودية ودورها الكبير وتأثيرها على العالمين العربي والإسلامي.

 

الضلع الثالث: السعي إلى مدّ المقاومات بجرعة معنوية لجمهورها، خصوصاً أنها دخلت في عصر التطبيع مع إسرائيل وآخرها الترسيم البحري في لبنان، كما الانكفاء والاكتفاء بالشعارات.

 

ولكن ماذا بعد حرب غزة الجديدة، وهل سيكون لها تداعيات سياسية على مستوى المنطقة؟ وهل ستخرج منها «حماس» أقوى أم أضعف؟ وما تأثيرها على محور الممانعة الذي سيدخل بدوره في صراع داخلي وهو انّ وحدة الساحات وَهم لا واقع وشعار للاستهلاك لا للترجمة وانه لو فتحت كل الساحات لكانت إسرائيل في وضع حَرج للغاية؟

لن يكون ما بعد غزة مختلفاً عما قبله تطبيعياً على مستوى المنطقة، ولن تتمكّن طهران من تجميد هذا المسار، إنما مجرّد تأخيره لبعض الوقت، لا بل سيشكّل فرصة للضغط الغربي والعربي على إسرائيل من أجل ان تبدِّل في سياساتها الداخلية تجنباً لتعويم المنظمات المتطرفة، ولن تستفيد «حماس» سياسياً من عمليتها الناجحة عسكرياً، لأنّ إسرائيل في ردها الانتقامي ستدمِّر قدراتها وبنيتها العسكرية لسنوات، إنما ستكون محفزاً للمقاومات انه باستطاعتها ان تضرب عمق إسرائيل وصورتها، ولكن ليس أبعد من ذلك، والمسار التطبيعي الذي انطلق لن يتوقّف، لأنّ أحد أعمدته الأساسية اقتصادي بامتياز، ولكن ضربة «حماس» الموجعة تؤكد في الوقت نفسه انه لم يعد باستطاعة إسرائيل تجاهل مطالب الشعب الفلسطيني المحقة، وهنا بالذات يكمن دور الرياض في الدخول على خط الصراع لإطلاق المسار السلمي بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل مقابل مواصلة المسار التطبيعي.