IMLebanon

التسلّق على الجراح

 

«ومن المحيط إلى الخليج ،

 

من الخليج إلى المحيط، كانوا يُعدّون الرماحَ

 

و أحمدُ العربيّ يصعد كي يرى حيفا و يقفزَ…

 

أحمدُ الآن الرهينهْ،

 

تركتْ شوارعَها المدينهْ وأتت إليه لتقتلهْ…

 

و أعُدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى

 

و تتركني ضفاف النيل مبتعدة

 

و أبحثُ عن حدود أصابعي

 

فأرى العواصَم كلّها زَبَدَا …

 

و صاعداً نحو التئام الحلمِ،

 

تنكمش المقاعدُ تحت أشجاري و ظلّكِ …

 

يختفي المتسلّقون على جراحك كالذباب الموسميّ»

 

(محمود درويش)

 

ليس من عادة الثوري أن يحسب لكل شيء حساباً، فطبيعة الثورة دائماً تحمل نزق اقتحام الغامض غير المدروس بدقة، وعلى الثوري بعدها تحمل وزر نجاحه وفشله، لكن الخسائر تقع في حالتي النجاح أو الفشل على بشر لم يكن لهم أي دور في صنع القرار. من هنا، لا أظن أنّ «حماس» حسبت حساباً لحدود نجاحها، ولا أظن أنّها حسبت لتداعيات هذا النجاح. كما أنّ طبيعة النزق الثوري أنّ صانعيه يقعون هم أيضاً في دوامة أو فخ استيعابه، مع استحالة التراجع عن حجم النجاح غير المحسوب، كما استيعاب ردة فعل الخصم الضارية والمسعورة.

 

وهنا لا أدعي معرفة مدى التنسيق المسبق بين أطراف الممانعة بخصوص عملية «حماس»، ولا علم لي إن كانت طهران تعرف مسبقاً بها، وإن عرفت فلا أظن أنّها علمت بالتفاصيل، وحتى وإن علمت، فلا يمكن حتى الافتراض أنّ قادة مخابرات الحرس الثوري توقعوا هذا القدر من النجاح. ولربما أيضاً أنّ عدم التنسيق أو حجم الإنجاز وضعا إيران ولاية الفقيه في حيرة بخصوص مدى تبنيها لما حدث، والأهم تحمل تبعات هذا التبني على المستوى العسكري.

 

المؤكد في هذه اللحظات، وفيما قوات الاحتلال تحاول التقدم داخل قطاع غزة، ويواجهها المقاومون في كل شبر وبناء مدمر وشارع قطعته الركام، وفيما سقط وسيسقط المزيد من الضحايا، فإنّ القيادة الإسرائيلية هي أيضاً واقعة في مأزق نجاح حماس الكبير، ومن المنطقي اعتبار الحرب الآن صراع وجود لدولة ظنت أنها منيعة وقادرة. بالتالي فإنّ احتمال توقف الحرب من دون تحقيق نصر ما يعيد ثقة الإسرائيليين بدولتهم، سيعني حتماً زوال تلك الدولة، ولو بعد حين.

 

لذلك فإنّ القيادة المسعورة هناك ستدفع قدماً بكل ما أمكنها لتحقيق هذا الانتصار، ولا يوجد أي مؤشر بأنّ مجلس الأمن سيتدخل لتغيير هذا المسار في الأمد المنظور، بحكم التوازنات القائمة، وهي التي منعت هذا المجلس من وقف مجزرة الشعب السوري المستمرة. الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية هو أنها تعتبر إسرائيل ولاية أميركية، وبالتالي فإنها منذ ما بعد سنة 1956، يوم ورثت رعاية إسرائيل عن الاستعمار القديم بعد العدوان الثلاثي على مصر، صارت إسرائيل أرضاً أميركية، وبالتالي فإنّ المواجهة هي مع الولايات المتحدة، وعلى عكس ما يقول بعضنا، فإن اليهود المجتمعين في فلسطين من كل أصقاع العالم، هم أنفسهم إدوات في موقع متقدم يقاتل من أجل المصالح الأميركية. لا هم هنا ما هو دين أو أصل القابضين على ناصية القرار العالمي، فقد يكون بعضهم من اليهود أو المسيحيين الصهيونيين أو من الملحدين بكل الديانات، ولكنهم يعبدون السلطة والمال.

 

ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أنّ الحرب ستكون طويلة، ومع أنّ العالم يشاهد هول ما يحدث في غزة، وقد يخرج الملايين من البشر للاحتجاج في لندن وباريس وواشنطن، وعواصم غربية أخرى، لن تسقط حكومات ولن تتغير السياسات. يكفي أو نلاحظ أنه فيما بوليفيا ودول أميركا الجنوبية تقطع العلاقات أو تستدعي سفراءها من إسرئيل، نرى الصمت في العواصم العربية المرتبطة بعلاقات مع إسرائيل، وبالتالي مع منظومات السيطرة العالمية.

 

هذا من ناحية الغرب وحلفائه، ولكن ماذا عن الشرق والممانعين؟ من الواضح أنّ أكبر دولتين في الشرق هما الصين وروسيا اكتفتا بدور تعطيلي في مجلس الأمن، ولم يُطرد سفير ولا استدعي آخر. لكن استمرار القتال في غزة، أو حتى توسعه لأبعد من ذلك، سيفرحهما بالتأكيد لأنه سيشغل الغرب وينهكه في ظل الحرب القائمة في أوكرانيا بالنسبة لروسيا، والتنافس على الاقتصاد العالمي بالنسبة للصين. يعني أنه كلما انهار بناء أو دمر مشفى أو صرخ غزاوي ألماً، كسب منافسو أميركا نقاطًا لهم.

 

سأكتفي بهذا القدر بهذا الخصوص. فماذا عن الممانعة والمئتي ألف مقاتل غير فارسي منتشرين حول ساحات المعركة، لخدمة مشروع الولي الفقيه؟ بالواقع إنني لم أتوقع إلا ما وقع، وكنت قد بدأت أكتب مقالي قبل أن يخرج حسن نصر الله بخطابه الأخير، لكن حجم البروبغندا التي سبقت الخطاب المرفقة بالتشويق الذي حول الأنظار عن عذابات غزة ليركزها على خواتم وأصابع نصر الله، وكأنها نسخة عن منحوتة إغريقية لبوسيدون، أو صورة عن أيدي شهداء مدينة كاليه في متحف رودان الباريسي، جعلتني أتريث بحكمي، لأنّ بعض الظن إثم. بالمحصلة، فإنه لا الصراخ ولا رفع الأصابع ولا التهديدات ولا هتافات الأتباع، ستتمكن من تغطية حقيقة ثابتة وهي أن إيران لن تقاتل إلا دفاعاً عن مصالحها، مثلها مثل أي قوة في الغرب أو الشرق. وما سيحصل غداّ، بعد سقوط المزيد من الضحايا، هو أنّ إيران تريد أن تجد مقعداً لها على طاولة مفاوضات، سرية أم علنية، لتكون لها حصة في المغانم، أي انتزاع اعتراف دولي بحكمتها في ضبط النفس، وبالتالي أحقية سلطتها على ما اغتنمته من مستعمرات من طهران إلى بيروت إلى صنعاء.

 

منذ بضعة عقود، نصح بعض الأكاديميين مواقع السلطة في أميركا بالتعاون مع الأصولية الشيعية المتمثلة بولاية الفقيه لكونها مرجعية واحدة قابلة للتفاوض، في حين أن الأصولية السنية لا مرجعية لها.

 

بعد أيام، وبغض النظر عمن سيرفع شارة النصر، سينضم بضعة آلاف من الضحايا في غزة إلى نصف مليون في سورية، وستشبه غزة حلب وحماة وحمص والغوطة والقصير. فهل يفهم ذوو الألباب؟