ثابتتان تتعاطى وفقهما الإدارة الأميركية مع الجحيم المفتوح في غزة، وهما: اولاً، إنّ حركة «حماس» في صيغتها الإيرانية أصبحت من الماضي. وثانياً، إنّ الشرق الأوسط تجاوز أو يكاد مرحلة خطر توسّع القتال والحرب المفتوحة.
صحيح أنّ الحشود العسكرية الأميركية لا تزال تتدفق الى المنطقة، لكنها باتت في إطار تركيز الردع لضمان تثبيت الاستقرار والتحضير جيداً لمرحلة إعادة صوغ المعادلة الجديدة للشرق الأوسط. ولكن هذا لا يعني بالطبع أنّ جحيم غزة سينتهي قريباً.
وفي الوقت الذي كانت عواصم المنطقة تراقب انتقال القوة الأميركية الضاربة الى المنطقة بكثير من التمعن، خصوصاً أنّها شكّلت خطوة أميركية نادرة الحصول كانت مراكز صنع القرار الأميركية تعمل على اختبار، او حتى امتحان النظام العالمي الجديد، والذي في المناسبه كان قد لبس حلّته الجديدة مع اندلاع حرب أوكرانيا قبل فترة ليست ببعيدة.
ومن الواضح أنّ واشنطن اختبرت الصين التي كانت قد باشرت بمدّ يدها الى الشرق الاوسط بدءاً من الخليج ووصولاً الى توثيق العلاقة مع إيران عبر اتفاقية طابعها استراتيجي. والتزمت بكين غياباً كاملاً عن المنطقة منذ اندلاع الحرب المجنونة.
كذلك شكّلت اختباراً كبيراً لروسيا المتحالفة مع ايران، والتي أقامت علاقات وثيقة مع حركة «حماس»، وهي التي بنت لها قواعد عسكرية بحرية وجوية وبرّية مهمّة في سوريا.
وكان معبّراً جداً ذلك السلوك الروسي الداعي الى منع تمدّد الحرب. ولم تكتفِ موسكو بمواقف لفظية بل طبّقت دعوتها هذه على الأرض.
وعلى سبيل المثال، وبعدما عمدت اسرائيل الى قصف مطاري دمشق وحلب لمرتين متتاليتين، وأخرجتهما عن الخدمة بهدف منع الحرس الثوري الايراني من استخدامهما لنقل اسلحة الى «حزب الله»، اتجهت طهران إلى القيادة العسكرية الروسية بطلب استخدام مطار قاعدة حميميم العسكرية كبديل من مطاري دمشق وحلب لتأمين نقل الأسلحة والذخائر الى «حزب الله» انسجاماً مع المبدأ القائم بالتعاون العسكري. لكن القيادة الروسية دخلت في مفاوضات مفصّلة وطويلة مع الحرس الثوري، دامت نحو ثلاثة اسابيع، تناولت دقّة الموقف في الشرق الأوسط والمصالح الحيوية الروسية، واشترطت في نهاية الأمر ان تكون شحنة الأسلحة لا تتضمن أسلحة يكون طابعها هجومياً أو نوعياً بل دفاعياً. وبالفعل هبطت طائرة للحرس الثوري في مطار قاعدة حميميم تحمل ذخائر وصواريخ أرض ـ جو محمولة على الكتف. والهدف الروسي كان واضحاً لجهة معارضته توسيع رقعة الحرب، ما سيهدّد المصالح الروسية في سوريا بسبب الفوضى العارمة التي ستحصل في لبنان، والتي ستمتد بسرعة الى الساحة السورية.
من هنا تراجعت احتمالات الحرب الشاملة، إذ لا يمكن تطبيق مبدأ «وحدة الساحات» في وقت تفتقد إيران لغطاء دولي كبير مثل الصين أو روسيا. وهو ما يدفع الى الإستنتاج أنّ لا بدّ من أن تكون الإدارة الاميركية راضية عن اختبارها لقواعد عمل النظام الدولي الجديد الذي ولد من رحم حرب أوكرانيا. أضف الى ذلك، «هرولة» القوى الاقليمية لتحقيق بعض المكاسب خلف الدخان الكثيف المنبعث من غزة.
فتركيا انطلقت لتصفية حسابات سريعة مع حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراقي، وشنّت غارات متلاحقة بعدما كانت قد استهدفت قبل أيام مواقع كردية في محافظتي إربيل ودهوك أدّت الى مقتل مسؤولين عسكريين أكراد. وصحيح أنّ هذا الواقع الدولي يشكّل ما يشبه الضوابط لعدم انفلات الوضع، لكنه في الوقت نفسه لم يردع واشنطن عن الدفع بترسانتها العسكرية الضخمة لضمان إبقاء الامور تحت سقف محدّد وتحضيراً للمرحلة المقبلة وإعادة رسم المعادلة الإقليمية.
ففي العادة لا يعلن الجيش الاميركي عن أي تحركات أو تحديد مواقع لغواصاته، خصوصاً تلك التي هي في مستوى وميزات «أوهايو»، أي التي تحمل صواريخ بالستية وتعمل بالطاقة النووية، والتي يمتلك منها 4 فقط. وتحرّكات هذه الغواصات تبقى محاطة بالسرّية المطلقة. لكن مع «أوهايو» هذه المرّة كان هنالك استثناء، مع نشر القيادة العسكرية الأميركية صوراً ودعاية ومعلومات وافية. الهدف كان واضحاً وهو توجيه رسالة الى إيران تجدّد تأكيد عدم توسيع دائرة الحرب، وعدم تعريض القواعد العسكرية الاميركية في المنطقة لخطر جدّي. ومعنى الرسالة أنّها مستعدة جدّياً للتدخّل عسكرياً في الشرق الاوسط إذا تدحرجت الأمور أو تجاوزت الحدّ المعقول. فالنزاع الداخلي الاميركي الحاد في السنة الانتخابية لا يتحمّل أخطاء تُعتبر «قاتلة».
لكن المسألة لا تقف هنا فقط، بل تطاول طريقة إعادة ترتيب المنطقة وصوغ معادلتها بعد انتهاء الحرب.
في المرحلة الماضية، وتحديداً قبل اشتعال جحيم غزة، كانت إدارة بايدن تعمل على إعادة رسم خريطة النفوذ السياسي في المنطقة عبر المفاوضات والضغوط السياسية. صحيح أنّ وزارة الدفاع الأميركية كانت باشرت في تطبيق خطة إعادة انتشار جديدة للجيش الأميركي، لكن الوسائل كانت محصورة بالدبلوماسية والتفاوض. لكن مع اندلاع الحرب في غزة قد تكون إدارة بايدن رأت أنّ إعادة تشكيل المنطقة قابل للتطبيق بنحو أسرع على الساخن. لذلك كان لا بدّ من وضع أهداف لمسار الحرب السائدة، وهو ما وصفه يومها نتنياهو بـ«تغيير وجه المنطقة». بالتأكيد لا تتطابق الأهداف الأميركية مع أحلام نتنياهو، لكن ثمة جوانب متشابهة، وهي ليست المرّة الأولى في التاريخ. فعلى سبيل المثال وإثر اجتياح لبنان عام 1982، حصل تصادم بين الأهداف التي أرادها مناحيم بيغن ورؤية إدارة رونالد ريغن، والتي انتهت الى خروج عسكري أميركي من لبنان إثر كوارث لحقت بقوات «المارينز»، وبالرئيس اللبناني أمين الجميل الذي اختار الوقوف على الضفة الأميركية.
واليوم، ثمة تباينات متشابهة، ولو أنّ الظروف مختلفة عن السابق. فالأزمة السياسية داخل اسرائيل ستنفجر بمقدار كبير بعد سكوت المدافع. وقد نشهد سابقة تاريخية في حال افترضنا أنّ اسرائيل ستحقّق الفوز على «حماس». عندها سيكون نتنياهو أول مسؤول في التاريخ يعود من ساحة الحرب وهو يدّعي انتصاره، لتنتظره مقصلة سياسية وابواب السجن مفتوحة امامه. فمشروع اليمين الاسرائيلي يبقى في السعي الى طرد الفلسطينيين من أرضهم. وهو إذ يعتقد أنّه على قاب قوسين من تحقيق ذلك في غزة، يعمل على التأسيس لطرد مماثل من الضفة الغربية. لذلك طلب صفقة 24 ألف بندقية هجومية من الأميركيين. والهدف تزويد سكان المستوطنات في الضفة بها لترويع الفلسطينيين ومهاجمتهم وطردهم في اتجاه الاردن. لكن الإدارة الاميركية أخذت التزاماً من الحكومة الاسرائيلية بأن تبقى هذه البنادق بيد المؤسسات الرسمية وبعدم انتقالها الى المستوطنين. لكن التاريخ علّمنا أنّ اسرائيل لا تلتزم بتعهداتها. وقد تكون الإدارة الاميركية تراهن على الموقف العربي في اطار الضغط على اسرائيل خشية ضياع فرصة تطبيق «اتفاقيات ابراهيم».
والأكيد أنّ القمة العربية الاستثنائية والتي ستُعقد في السعودية، ستشكّل محطة مهمّة تؤسس لتوازنات المرحلة المقبلة في المنطقة. فواشنطن وخلافاً للحكومة الاسرائيلية، ترى أنّ إدارة غزة بعد الحرب يجب أن تخضع لتصور مشترك سعودي وقطري وإماراتي، على أن يجري إيكال دور لمصر، وذلك كبديل من النفوذ الايراني. ومن هذا المنطلق تصبح القرارات التي ستصدر عن القمة أساسية ومهمّة للمرحلة المقبلة.
ولذلك تُسجّل حركة كبيرة في الكواليس التحضيرية لها مع وجود خلافات حول بعض النقاط. وعلى سبيل المثال، تريد مصر ومعها الاردن عبارات واضحة حول رفض أي مخطّط تهجيري للفلسطينيين من غزة والضفة. كذلك ترفض مصر وضع قوات دولية تحت إدارة أممية عند الحدود مع غزة بعد انتهاء الحرب. ومن النقاط التي تخضع للتجاذب، رفض بعض الدول الخليجية تولّي مهمّة التمويل إذا كانت ستؤدي في نهاية المطاف الى إعادة إحياء النفوذ الايراني على الساحة الفلسطينية. كذلك فإنّ طريقة صوغ البند المتعلق بتوصيف حق المقاومة أكان عبر التنظيمات الفلسطينية أم عبر الشعب الفلسطيني أم عبر سكان غزة. وهذا ما دفع ببعض الدول الى اقتراح تأجيل إنعقاد القمة لبعض الوقت، ولكن سرعان ما تمّ وضعه جانباً.
لكن الملفت كان عودة الكلام في الأروقة الدبلوماسية الأميركية عن نضوج الظروف لإقامة نظام أمني ـ دفاعي عربي تشارك فيه اسرائيل كإطار مستقبلي، وهو ما كان عُرف سابقاً بـ«ناتو عربي»، وسقط بعدما رفضته دول عربية عدة.
وتبقى المشكلة الفعلية في التوجّه الذي تسعى إليه الحكومة الإسرائيلية من خلال الحرب، والذي لا يتطابق مع الرؤيا الأميركية. إلّا أنّ هنالك رأياً في واشنطن يراهن على أن تكون الأهوال التي نتجت من «طوفان الأقصى» لا بدّ أن تكون غيّرت في تصلّب الشارع الاسرائيلي. صحيح أنّ الإنتخابات الاسرائيلية بدوراتها الخمس المتتالية أظهرت ميل الشارع الاسرائيلي الى التصلّب وبالتالي جنوحه نحو اليمين، والذي انتج في النهاية حكومة يمينية متطرّفة وهجينة، الّا أنّ نتائجها الكارثية ستأخذ الشارع الاسرائيلي الى خيارات واقعية وأكثر اعتدالاً. وثمة وقائع تاريخية تعزّز هذا الرهان. فالذهاب الى اتفاقية كمب ديفيد ما كان ليحصل لولا هزيمة العام 1973. والذهاب الى المؤتمر الدولي للسلام عام 1991 وبالتالي التسويات مع الاردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ما كان ليقبل به الشارع الاسرائيلي لولا سقوط صواريخ «سكود» العراقية داخل اسرائيل. وهو ما يعني أنّ الشعور بالخطر هو الذي يدفع الاسرائيليين الى المرونة والقبول بالتسويات السلمية. وهذا الواقع يتكرّر بقوة أكبر مع «طوفان الأقصى»، ما يسمح، في رأي البعض بالرهان على تكرار تجربة اسحق رابين من خلال بيني غانتس، بعد انتخابات متوقعة مع انتهاء الحرب. وبالتالي قبول الاسرائيليين مبدأ دولتين لشعبين.
لكن السؤال الأهم يبقى: متى ستضع هذه الحرب أوزارها؟
وزير الدفاع الاسرائيلي كان قد صرّح بعد أيام على اندلاع الحرب على غزة، أنّ الحملة العسكرية تتكون من ثلاث مراحل، تنتهي بإنشاء نظام أمني جديد في قطاع غزة، وإزالة مسؤولية اسرائيل من الحياة اليومية فيه، وخلق واقع أمني جديد للمنطقة المحيطة بغزة. ولكن هنالك ما هو داهم أكثر مع بدء تبدّل مزاج الرأي العام العالمي، وإشارة إسقاط الديموقراطيين للمنحة المالية الضخمة الجديدة، والتي اقترحها الجمهوريون في الكونغرس الأميركي. والاستنتاج هنا أنّ الوقت ينفد، ولو أنّ الهدف يبقى بإبعاد تأثير ايران عن الساحة الفلسطينية، هذا إذا ما تمكنوا من ذلك.