بين لبنان ومناطق السلطة الفلسطينية، هناك تَشابه في طبيعة الأزمة. في لبنان، «حزب الله» يقاتل ليحصل على الاعتراف الداخلي والخارجي بأنه صاحب القرار الأول في السلطة وبأنّ «سلاح المقاومة» لا يمسّ. وفي غزة أيضاً، تَتبع «حماس» هذا المسار. فهي تقاتل ليصبح لها القرار الأول في رام الله لا في غزة فقط. وأمّا سلاحها الذي به تقاتل اليوم، فممنوع انتزاعه منها، أيّاً تكن التسويات. وفي المقابل، لا تتنازل «فتح» عن السلطة. وهكذا، يدور الفلسطينيون في حلقة مفرغة.
في كانون الأول الفائت، وفيما كانت المعارك على أشدها في غزة، دخلت «فتح» و»حماس» مفاوضات حثيثة، في محاولة للإجابة عن السؤال الأكثر تداولاً: ماذا في اليوم التالي؟ وتردّد أنّ اسماعيل هنية وخالد مشعل كانا أبرز المشاركين في المفاوضات من جانب «حماس»، فيما تمثّلت فتح بعدد من الكوادر على رأسهم حسين الشيخ الرجل الثاني في الحركة.
الاجتماع عقد نتيجة الوساطات والضغوط العربية، والأميركية خصوصاً، بهدف إنتاج قيادة فلسطينية تحظى بصدقية التمثيل الشعبي، ويمكن أن تتحدث باسم الفلسطينيين في أي مفاوضات سياسية محتملة بعد انتهاء الحرب. فمن أبرز الذرائع التي تستخدمها إسرائيل لتعطيل أي تسوية عادلة في الملف الفلسطيني انقسام القوى الفلسطينية بين «فتح» في الضفة الغربية و«حماس» في غزة.
في الواقع، أظهرت حرب غزة دوراً متعاظماً لـ«حماس»، لم يعد أحد قادراً على تجاوزه، لا في الداخل الفلسطيني ولا في الخارج. وتزامنت المفاوضات مع استطلاعات للرأي نشرت في تلك الفترة، أشارت إلى تنامي شعبية «حماس» فلسطينياً، حتى في الضفة، واقتناع نسبة واسعة من الفلسطينيين بأنّ السبيل السلمي لم ينجح في إجبار إسرائيل على الاعتراف بالحقوق وانّ استخدام القوة قد يكون الأنسب. وقد تحصّن مفاوضو «حماس» بهذه الاستطلاعات وطلبوا من «فتح» احترامها في أي تسوية لتوحيد القيادة.
بالنسبة إلى «حماس»، يعني التوحيد أمرين أساسيين: أولاً أن تتنازل لها «فتح» فعلاً، لا في الشكل، عن جزء من السلطة. وثانياً أن يتم الاعتراف لها بالاحتفاظ بسلاح المقاومة الذي نجح في إيقاظ الملف الفلسطيني من سُباتِه العميق.
وسبق أن تفاهَمت «فتح» مع «حماس»، في مراحل عدة، على منحها هامشاً معيناً داخل السلطة، كسبيل لإنهاء الانشقاق الفلسطيني. لكنّ النتائج جاءت سلبية. وفي النظرة إلى السلاح، بقي الخلاف قائماً، حتى 7 تشرين الأول الفائت على الأقل. فقد اعتبرت «فتح» أنها هي صاحبة التجربة الطويلة في العمل الفلسطيني المسلّح، على مدى عقود، وأنها هي التي أوصَلت الفلسطينيين إلى أوسلو الذي وَفّر اعترافاً إسرائيلياً ودولياً لهم بقدرٍ معيّن من السلطة على أجزاء من القدس والضفة وغزة. وهذا المسار يجب الحفاظ عليه واستكماله بالضغط السياسي والديبلوماسي، لإجبار إسرائيل على التزام التفاهمات.
قراءة «حماس» هي أن إسرائيل لن تستجيب للحد الأدنى من الحقوق إلّا بالعودة إلى الكفاح المسلح. وتقول إنّ ما تفعله اليوم هو العودة إلى تاريخ «فتح» نفسه.
ووسط هذا النقاش، خرجت أصوات فلسطينية تقول: حسناً، ما دامت «فتح» تحظى بالاعتراف الدولي، وهي مقبولة إسرائيلياً، فلتتولَّ شؤون المفاوضات والاتصالات الخارجية، ولتحافظ «حماس» في المقابل على سلاحها في الميدان. فهذه الثنائية يمكن أن تكون الصيغة المثالية لتحصيل ما أمكن من حقوق: أحد الطرفين يفرض الوقائع على الأرض والطرف الآخر يقطف الثمار.
وهذه الصيغة قد تكون مثالية لخدمة المصلحة الفلسطينية إذا كانت الحركتان متناغمتين تماماً، فلا حساسيات ولا خلافات على السلطة أو السلاح بينهما، ولا تداخلات خارجية في شؤون أيّ منهما. وهذا ليس هو الأمر الواقع.
فمسار العلاقة بين الحركتين كان مشحوناً على مدى العقدين الفائتين، وارتبط كلّ منهما بمحور إقليمي: «فتح» حليفة لمحور «الاعتدال» العربي و»حماس» حليفة لإيران، لكنها تحتفظ برابط سياسي وعقائدي مع المحور الداعم لـ«الإخوان المسلمين». كما أنّ إسرائيل ترفض أي تعاون مع «حماس»، ومعها المحور العربي والدولي الحليف للولايات المتحدة. ولذلك، لم تنجح كل المحاولات للتفاهم على توحيد القيادة الفلسطينية، وتالياً توحيد الأرض بين الضفة وغزة، وانعكس ذلك توتراً في العلاقات بين الشقيقين اللدودين.
وفي مسار الأحداث، على مدى عقدين، يمكن استنتاج ثابتتين:
-1 «فتح» ترفض التخلّي عن مكاسبها داخل السلطة، وتريد استيعاب حماس تحت جناحها، كشريك أصغر.
-2 «حماس» ترفض التخلي عن السلاح والهيكلية التنظيمية عسكرياً وأمنياً، إذ لا ثقة لها في السلطة الفلسطينية.
-3 إسرائيل تراهن على هذا الخلاف وتستغلّه للمضي في السيطرة الكاملة على المناطق الفلسطينية: غزة والضفة والقدس.
وهذه الاستنتاجات تؤكدها الوقائع. ففي العام 2006، رفضت إسرائيل الاعتراف بالحكومة التي ترأستها «حماس»، برئاسة اسماعيل هنية، على رغم أنها فازت ديموقراطياً في الانتخابات البرلمانية. وكان لافتاً اندلاع اشتباكات بين «فتح» و«حماس» في غزة. بعد ذلك، عمد خلالها الرئيس محمود عباس إلى إقالة هنية. ورَدّت «حماس» بانفجار عسكري كبير في غزة، انتهى بالحسم هناك لمصلحة «حماس»، عام 2007.
ولم تنجح محاولات المصالحة حتى العام 2017، عندما انتقلت قيادة «حماس» من خالد مشعل إلى هنية، وأعلنت قبولها بدولة فلسطينية في الضفة والقدس وغزة، شرط عدم الاعتراف بإسرائيل.
اعتقد المتابعون آنذاك أنّ هناك فرصة جديدة لتوحيد القيادة. لكن «حماس» أنشأت لجنة لإدارة غزة اعتبرتها رام الله بمثابة حكومة رديفة، فارتفع مستوى التوتر بين الجانبين، سارَعَ المصريون إلى احتوائه بوساطة أثمرَت اتفاقاً للمصالحة في القاهرة، يقضي بنقل السلطات في القطاع إلى السلطة الفلسطينية.
لكن «حماس» تمنّعت عن تسليم أي شيء يتعلق بقدراتها العسكرية والأمنية، فسقط الاتفاق، وشكّل محمد اشتية حكومة جديدة في رام الله استبعَدت «حماس».
اليوم، تمارس إسرائيل ضغوطاً جديدة على السلطة الفلسطينية بهدف حشر «فتح» و«حماس»: إذا أردنا التفاوض حول اليوم التالي في غزة، أو الملف الفلسطيني ككل، فمع مَن نتحدث؟
إنه الدروان في الحلقة المفرغة: لا «فتح» تقبل بتسليم «حماس» جزءاً من السلطة، ولهذه الغاية ترفض ابتكار مناصب جديدة كنائب للرئيس. ولا «حماس» مستعدة للتراجع أو التخلي عن السلاح، ولا هي تعترف بإسرائيل، ولا الإسرائيليون يقبلون بمفاوضتها سياسياً.
وفوق ذلك، لا يحبّذ غالبية العرب والمجتمع الدولي أن تكون «حماس» صاحبة القرار الفلسطيني الأول. والجميع يخشى إجراء انتخابات تشريعية تفوز فيها من جديد، وهذا أمر محتمل جداً.
ولذلك، الجميع يهرب… ولكن إلى الأمام، ووحدها الحرب تتقدم.