العدوان الإسرائيلي على غزة ليس مجرد عملية إغتيال لقادة من «الجهاد الإسلامي»، بقدر ما هو فصل من معركة تصفية الحسابات بين المحاور المشتبكة في الإٍقليم، عشية المرحلة الحاسمة في محاولات التسوية الناشطة في المنطقة، والتي صدرت إشارتها الأولى من إستئناف مفاوضات فيينا بين الوفدين الأميركي والإيراني حول الملف النووي الإيراني.
والإشتباك الصاروخي المحتدم في سماء غزة وبعض المناطق المحتلة ليس إشتباكاً بين «الجهاد» وحلفائها من جهة، والجيش الإسرائيلي من جهة ثانية وحسب، بقدر ما هو معركة تحمل في تفاصيلها رسائل سياسية متعددة الإتجاهات والأهداف، بين أطراف إقليمية، يحاول كل طرف منها تحسين أوضاعه عندما تدق ساعة الجلوس على طاولة المفاوضات المنتظرة.
لبنان هو في صلب المحاور الإقليمية المشتعلة، بعد إنزلاقه إلى المحور الإيراني، وهيمنة حزب الله على مفاصل القرار السياسي، مع فارق كبير عن ظروف ٦ تموز ٢٠0٦، عندما شن الحزب هجومه على الموقع الإسرائيلي على الحدود الجنوبية لتخفيف الضغط عن غزه يومذاك، وتمكن من أسر جنديين، وسقط بقية جنود الموقع بين قتيل وجريح، وكان الشرارة التي أشعلت حرب تموز التي إستمرت أربعين يوماً تقريباً.
ولكن لا وضع الحزب، ولا أوضاع الداخل الإسرائيلي، يسمحان بالنزول إلى المبارزة العسكرية من جديد، لأسباب عديدة يطول شرحها في هذه العجالة، ولكن يبقى أهمها إقتراب التوقيع على إتفاقية ترسيم الحدود الجنوبية، والإستعداد لإنطلاق عمليات التنقيب وإستخراج النفط والغاز، في مرحلة تزايد الحاجة العالمية لهاتين المادتين بعد العقوبات الغربية على روسيا بسبب الحرب على أوكرانيا.
أجواء الحذر والترقب وحبس الأنفاس التي سادت المنطقة بعد العدوان الإسرائيلي على غزه، لم تسحب نفسها على الوضع السياسي اللبناني الذي بقي أسير السجالات والمهاترات المهينة بين رئيس الجمهورية وفريقه والرئيس المكلف، وكأن الأخطار المحدقة بالسلم والإستقرار في المنطقة، لا تعني شيئاً أمام الحرص المتمادي على المصالح الشخصية والفئوية، في بلد يقف على شفير الإرتطام الكبير بين لحظة وأخرى.
الواقع أن مضاعفات الواقعة البشعة بين بعبدا والسراي الكبير لم تقتصر على تهشيم صورة كبار المسؤولين المشوهة أصلاً، بشتى ألوان العجز والفشل والفساد، بل قضت على كل إحتمالات عودة الثقة الخارجية بالمنظومة الحاكمة، وبالتالي ترجيح كفة تأجيل الخطوات المساعدة للخروج اللبناني من النفق الحالي إلى ما بعد إنتهاء العهد الحالي على الأقل.
كما أن المناخات المسمومة التي قضت على كل محاولات تشكيل الحكومة العتيدة، من شأنها أن تؤدي إلى تأخير الإنتخابات الرئاسية، الواقفة على عتبة التردد والتأجيل تحت ضغط الخلافات الداخلية، والتشرذم الحاصل في الطائفة المارونية المعنية الأساسية بهذا الإستحقاق، فضلاً عن حالة الغموض المحيط بالوضع الإقليمي، بإنتظار نتائج محاولات إصلاح ذات البيْن، سواء على مستوى الملف النووي الإيراني، أم بالنسبة للمحادثات السعودية ــ الإيرانية، أو بالنسبة للخطوات العملية لزيارة الرئيس الأميركي بايدن للسعودية، والوعود التي تعهدها للحفاظ على أمن وإستقرار دول مجلس التعاون الخليجي، وسلامة الملاحة البحرية في منطقة الخليج.
وتأجيل الإنتخابات الرئاسية يعني، بشكل أو بآخر، تأخير تنفيذ الحد الأدنى من قرارات الإصلاح والإنقاذ التي ينتظرها العالم لمد يد المساعدة للبلد المنكوب. الأمر الذي من شأنه أن يُفاقم الأزمات التي يتخبط فيها لبنان على مختلف الصعد الإجتماعية والمعيشية والمالية، ويُطلق العنان لمزيد من الإنهيارات في القطاعات الحيوية، الواحد تلو الآخر، على نحو ما هو حاصل في صوامع القمح، التي تحولت إلى مشهد دراماتيكي رمزي يوحي بمرحلة الإنهيارات المتتالية التي يعيشها لبنان منذ بدء النصف الثاني من ولاية الرئيس ميشال عون.
المفارقة المحزنة فعلاً أن فريق العهد يتحدث عن هذه الإنهيارات وكأنها إنجازات خارقة في زمن المكابرة والإنكار المستمر، رغم فداحة عاصفة الإنحدارات التي ضربت البلاد والعباد وأوصلت الجميع إلى جهنم وبئس المصير.
أما الحديث عن الحكمة في إدارة الحكم، والجرأة في إتخاذ قرارات الإنقاذ الصعبة، وضرورة التضحية بالمصالح الأنانية لتخفيف معاناة الناس، فأصبح من نوع لزوم ما لا يلزم، بعدما طغت أجواء «العصفورية» في العناد والمكايدة، على ما عداها من حقائق وآلام الواقع المرير!