IMLebanon

جعجع والحريري: مع الأب والإبن

 

كانت الساعة 8 و45 دقيقة تقريباً عندما وصل الرئيس سعد الحريري إلى معراب مساء الإثنين 15 شباط 2016 للقاء الدكتور سمير جعجع. لم تكن تلك الزيارة الأولى لرئيس تيار “المستقبل” إلى رئيس حزب “القوات اللبنانية” في هذا المقر. منذ لقائهما الأول في سجن وزارة الدفاع بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري سار الرجلان معاً في تحالف 14 آذار وكانا الركنين الأساسيين فيه مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط.

كانت العلاقة اهتزت بينهما على وقع الترشيحات الرئاسية ولكن دائما كان هناك رهان على أنها لن تتداعى لأنها تبقى الضمانة لاستمرار ثورة الأرز. أكثر من مرة تم السعي إلى استيعاب الأزمات في هذه العلاقة وأكثر من مرة كانت تتجدد وتبقى أكبر من مجرد لقاء ومحاولة للتنسيق والتصحيح والعودة إلى ما كانت عليه في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي كانت بينه وبين سمير جعجع علاقة وثيقة منذ ما قبل الطائف. ما حصل بعد امتناع “القوات” عن تسمية الرئيس سعد الحريري لتأليف الحكومة ووعدها بمنحها الثقة إذا كانت كما تطالب بها واحدة من تلك الأزمات التي ربما تعيد البحث عن لقاء جديد على تجديد الثوابت.

 

فجر 14 شباط 2016 عاد الرئيس سعد الحريري من غربته القسرية التي امتدت منذ إقالة حكومته في كانون الثاني 2011 في انقلاب سياسي نفذه حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل من الرابية. أكثر من مرة ناشد جعجع الحريري الإبن العودة إلى لبنان من أجل شد عصب المواجهة ولكنه دائما كان يؤجل عودته محاولا ابتداع مبادرات سياسية متعلقة بالترشيح لرئاسة الجمهورية. كان الدكتور سمير جعجع لا يزال مرشحا باسم قوى 14 آذار عندما ذهب الحريري في اتجاه بحث المسألة من خلال ترشيح العماد ميشال عون . وفي أواخر العام 2015 حاول ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية من دون أي تفاهم مع جعجع و”القوات”.

 

أكبر من مزحة

 

في 18 كانون الثاني 2016 تبنى جعجع ترشيح العماد عون. هذا القرار ترك أثراً سلبيا عند الرئيس سعد الحريري الذي لم يكن من المتوقع أن يعود للمشاركة في إحياء ذكرى اغتيال والده ذلك العام. ولكنه عاد فجرا. جعجع لم يكن في وارد المشاركة في تلك المناسبة في حال عدم عودة الحريري ولكن تلك العودة المباغتة بدلت رأيه. في كلمته عبّر الحريري عن الإنزعاج من خيار جعجع وانتقده بشكل مباشر عندما قال موجهاً الكلام إليه أنه “لو حصلت المصالحة مع العماد عون من زمان شو كنت وفرت على المسيحيين وعلى لبنان”.

 

تجاوز جعجع هذه “المزحة” الثقيلة ولكن كان من الواجب احتواء سلبياتها وعلى هذا الأساس كانت زيارة الحريري إلى معراب ليل 15 شباط. لم تكن تلك المرة الأولى التي يزور فيها معراب. في 27 أيلول من العام 2007، بعد أسبوع على اغتيال النائب أنطوان غانم، قبل انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود زار الرئيس الحريري بكركي والتقى البطريرك صفير وانتقل إلى معراب وبحث مع الدكتور جعجع عن مخارج من احتمال الوقوع في الفراغ مع معارضة حزب الله انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية”. يومها كان هناك اختلاف أيضاً في وجهات النظر بين أن يكون الرئيس من بين مرشحي 14 آذار المعلنين النائبين نسيب لحود وبطرس حرب وبين أن يكون وفاقياً. ولكن الفراغ حصل وبقي قصر بعبدا من دون رئيس.

 

في 26 نيسان 2008 زار الحريري بكركي ثم معراب أيضاً وتم البحث عن مخارج للفراغ الرئاسي. ولكن بعد 12 يومًا كان حزب الله يشن عملية 7 أيار ليفتح بعدها الطريق نحو انتخاب ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية على ضوء تفاهم الدوحة.

 

لقاء وعتاب

 

قبل أن يصل الرئيس سعد الحريري إلى معراب بدأ اتخاذ الترتيبات اللازمة لإخراج اللقاء من رتابته ومن البرودة التي اعترت العلاقة. كان الدكتور سمير جعجع حريصاً على أن يكون اللقاء عائلياً وحميمياً وأن يشعر الرئيس سعد الحريري أنه في بيته. لذلك أراد أن يكون في المنزل وليس في المكتب. وكان حريصاً أيضاً أن يتم النقل التلفزيوني من داخل البيت. وصل موكب الرئيس الحريري وكان الحكيم وستريدا معاً في الإستقبال على الباب: “أهلاً وسهلاً فيك بمعراب دولة الرئيس”. في اللقاء الأولي الذي دام حتى الساعة التاسعة والنصف تقريباً حرص الدكتور جعجع على تخطي حاجز البيال بسرعة والإنتقال مباشرة إلى التأكيد على عمق العلاقة وعلى المضمون السياسي للخطاب الذي ألقاه الرئيس سعد الحريري داعياً إياه إلى البقاء في لبنان لحل الكثير من الأمور العالقة: “بدنا ياك تضل بيناتنا حتى نحل كتير من الأمور اللي بدها حل”. من جهته أبدى الرئيس سعد الحريري حرصاً مماثلاً على تأكيد التحالف والعلاقات والتنسيق في القضايا المختلف عليها. كانت محاولة لكسر الجليد. بعد التصريحات حرص الرئيس سعد الحريري والدكتور جعجع على التقاط الصور مع الصحافيين داخل البيت وبعد ذلك تم استكمال البحث على العشاء الذي استمر حتى منتصف الليل.

 

مع الرئيس رفيق الحريري

 

قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري كانت العلاقة قد توطدت بين “المستقبل” و”القوات”. بعد زيارة النائب وليد جنبلاط إلى بيت الدكتور سمير جعجع في يسوع الملك مع الدكتور فارس سعيد قبل عيد الميلاد في العام 2004 كان الرئيس الحريري يدرك خطورة هذه المسألة. لم يتوان عن القول للدكتور سعيد عندما أبلغه بأمر الزيارة ” أنتم مجانين… سيقتلونكم”. كان الرئيس الحريري يدرك حسياً مدى التهديدات التي يتعرض لها مع الحركة الإستقلالية التي كانت تولد في البريستول بين لقاء قرنة شهوان والبطريرك صفير والنائب وليد جنبلاط. على رغم ذلك لم يتردد في الكشف عن اللحاق بها ومن ثم في تفويض من يمثله التوقيع على مشروع قانون العفو عن الدكتور سمير جعجع. في عيد الميلاد 2004 خرج من دائرة الظل في العلاقة مع “القوات” ليتصل بالسيدة ستريدا جعجع ويهنئها بالأعياد متمنياً “أن يكون الدكتور سمير جعجع بيننا في العيد المقبل” وهو كان يدرك طبعاً أن الإتصال سيكون معرضاً للتنصت. وبدا أنه يتقصد ذلك.

 

شاءت الأقدار أن يتم اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل أن يخرج الدكتور سمير جعجع من السجن. في سجنه في وزارة الدفاع عرف الدكتور سمير جعجع أن هناك حدثاً كبيراً حصل من خلال الحركة غير الإعتيادية. كان يخشى على وليد جنبلاط ورفيق الحريري من الإغتيال. بعد أيام عرف بالخبر خلال زيارة والديه له عندما قالت له والدته “عرفت؟ يا حرام قتلوا الحريري”. وكان هذا الكلام سببا في التعجيل بإنهاء الزيارة.

 

قصة علاقة

 

في 14 شباط 2018 عندما كانت العلاقات بين الدكتور جعجع والرئيس سعد الحريري تمر بأزمة كبرى بعد شهرين على تقديم الثاني استقالته من المملكة العربية السعودية روى جعجع في سلسلة تغريدات قصة مختصرة لعلاقته مع الرئيس رفيق الحريري. قال: “شاءت الظروف أن أتعرّف شخصياً الى الرئيس رفيق الحريري قبل المرحلة التي أصبح فيها معروفاً من قبل الناس، لذا لدي ذكريات شخصيّة معه بالمعنى الفعلي للكلمة في مرحلة ما قبل وخلال ومباشرة بعد إقرار اتفاق الطائف… أول لقاء لي معه كان في سويسرا العام 1987 وخلاله سألني الرئيس الحريري عن أهداف عملي السياسي؟ ولأي أهداف نحن نقاتل في “القوّات اللبنانيّة”؟ فأجبته أننا نقاتل من أجل لبنان والأسباب الأخرى التي يعلمها الجميع ولن أعيدها الآن… كان الرئيس الحريري يصغي إليّ أثناء إجابتي وعندما انتهيت قال لي: “لا إعتراض لي على أي من هذه الأهداف إلا أنه لدي سؤال واحد هل ستحقق كل هذه الأهداف بنفسك وحيداً؟” عندها أيقنت أننا في بلد بحاجة دائماً إلى تفاهمات من أجل تحقيق الأهداف التي نريدها… لقد اتفقت والرئيس الحريري على التواصل الدائم في ما بيننا وأصبح لدينا خط مباشر غير مكشوف كنا نتواصل عبره للتداول في الأمور كافة. وكنت في تداول مستمر معه في مرحلة الطائف وصولاً إلى إقراره حيث عاد الرئيس الشهيد للإستقرار في بيروت وأصبحت أزوره من وقت إلى آخر…المرّة الأخيرة التي التقيت فيها مع الرئيس الحريري كانت في شهر شباط من العام 1994 قبيل اعتقالي بشهرين فقد دعاني مع النائبة ستريدا جعجع لتناول العشاء الذي ضم إلى الرئيس الحريري زوجته الست نازك الحريري حيث تكلمنا بكل الأمور المتداولة في حينه… بعد هذا العشاء زرته مرّة أو مرتين في قريطم في مناسبات مختلفة إلا أن هذا العشاء كان اللقاء الأطول فيما الزيارتان اللاحقتان اقتصرتا على مناقشة مواضيع معيّنة تستوجب البحث أم إيجاد حلٍ لها”. أضاف جعجع: “بعد 13 عاماً على اغتيال الرئيس الحريري لا يزال ميزان القوى الفعلي على المستوى الشعبي كما كان منذ اللحظة الأولى خلافاً لما يظنه البعض، إلا أن الفرق الوحيد هو أن هناك بعض الساسة تعبوا من المواجهة إلا أن الثوابت باقية كما هي…”.

 

في نهاية كلمته في 14 شباط 2016 في البيال قال الرئيس سعد الحريري أيضا: “عهدي إليكم أن نبقى معا، مهما بلغت التحديات، وأن أكون معكم، نلبي معا ما يفرضه الواجب الوطني، وحق اللبنانيين علينا بالوحدة والاستقرار والحياة الكريمة.

 

كلمة أخيرة، أريد من كل واحد منكم أن يسمعها جيداً ويفكر بمعناها ملياً. جميعكم تعرفون أنه عند كل قرار مفصلي، أسأل نفسي سؤالاً واحداً: ماذا كان رفيق الحريري يفعل لو كان مكاني اليوم. واليوم في 14 شباط تحديداً، لا أجد إلا جواباً حقيقياً واحداً: يا ليت رفيق الحريري كان واقفاً أمامكم، في مكاني اليوم”.