يطيب لكثير من اللبنانيين، في خضم المحطات «غير الطبيعية» التي يعيشونها منذ العام 2005، أن يتفجّعوا على أحوالهم. وهذا شيء تستدعيه أسباب بديهية. إذ ليس في بلادهم رئيس للجمهورية منذ ما يربو عن عشرين شهراً. وليس فيها حكومة تعمل. وإن فعلت، فعملها يعكس منطقَ محاصصةٍ وسياسة نكايات. كما ليس فيها مجلس نواب يجتمع إلا تحت سقف توافقات عامة حول قضايا هي، في المبدأ، خلافية كبرى. وإن حصل اجتماع نيابي كهذا، شُرّعت محاصصات الحكومة المذكورة، وجُوّفت الحياة السياسية من أي معنى عميق لها أكثر.
تُشكّل هذه المسائل مدعاة لتأفّف المواطن في لبنان. وتحتها تقع عناوين لا تُحصى من التبعات التي تستدعي مزيداً من شعور هذا المواطن بانعدام جدوى الانخراط في الشأن العام: من غياب آليات الرقابة والمحاسبة على المؤسسات المذكورة أعلاه وغيرها.. إلى الازدواجيات المريعة في إدارة السياسة الخارجية للبلاد.
لاستهجان واقع الحال والأحداث المصاحبة له أسباب مفهومة إذاً. هذا في ظل سير الأمور وفق منطقها المُعتاد. فما بالك إن أتى حدثٌ سياسي أدخل على وعي اللبنانيين جديداً لم يعهدوه طوال المرحلة «غير الطبيعية» التي تعايشوا مع قواعدها الناظمة على مدى عقدٍ من الزمن؟
قبل يومين، خرج من رحم المسرح اللبناني مشهدٌ كاسرٌ للأعراف السائدة منذ العام 2005 الذي شهد انطلاق قافلة الجنون إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وخروج الوصاية الأمنية السورية من لبنان، ودخول الأخير في أتون نزاعات لا متناهية. فقد أعلن رئيس الهيئة التنفيذية في «القوت اللبنانية» سمير جعجع دعمه ترشيح غريمه التاريخي العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وبهذا الإعلان، بنى الرجلان جسراً كانت قد أشبعته هدماً معاركُهما التي أقفلا فيها فصول الحرب الأهلية اللبنانية أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وبهذا، أيضاً، تجاوز الرجلان الحساسيات التي تحكّمت بعلاقتهما بعد عودة عون من المنفى وخروج جعجع من السجن في العام نفسه، ومباشرتهما العمل السياسي على أساس أن الساحة إن اتسعت لواحدٍ منهما، فسيكون ذلك على حساب الآخر.
لكن هل كان مشهد التوافق بين الزعيمين اللدودين غريباً فعلاً، كما أوحى الكثير من ردود الفعل؟
إن أعملنا المنطق السياسي البارد، فإن الأمر يبدو طبيعياً جداً. فعون يدرك أن شعبيته في الوسط المسيحي وقفت، مع سائر حلفائه، عند حاجز الخمسين في المئة أو أكثر بقليل من النقاط. وهو، برغم كونه الأكثر تمثيلية بمفرده مقارنة بسائر السياسيين المسيحيين الآخرين، عاجز عن فرض نفسه كما حاول أن يفعل (ولم يقدر) إثر عودته من باريس قبل عشر سنوات، يوم كان «تسونامي» لوائحه الانتخابية يلامس حاجز السبعين في المئة في البيئة المسيحية. أما جعجع فقد بات يعتبر أنه استنفد كثيراً من الوقت في المقاعد الخلفية لـ «تيار المستقبل» من غير طائل. وقد أخذ يدرك أن الانتقال من مقعد اللاعب السياسي المُلحَق أو الاحتياطي إلى آخرَ في الصف الأول أو المُقرِّر، يقتضي منه خرق الاصطفافات التي ولّدتها عشر سنوات لم تقدّم له الكثير على المستوى الشعبي المسيحي، ولا فعلت على مستوى التمثيل الرسمي أيضاً.
وفيما يسعى عون إلى تحقيق حلمه المباشر بالدخول إلى قصر بعبدا، ليختم مسيرته السياسية رئيساً للجمهورية وليكسر إرادة الخارج بمنعه من ذلك ويكرّس نفسه أسطورة في الوجدان المسيحي، ينظر جعجع على المدى الأبعد لوراثة جزء من الحالة العونية، التي لا يبدو صهر الجنرال الأول قادراً على احتوائها، ولم يُهيَأ لهذا الاحتواء صهرُه الثاني بعد.
هذا في حسابات كلٍ من الرجلين على حدة، أو بعض هذه الحسابات على الأقل. لكن خلف التفاهم بينهما منطق سياسي أكثر صلابة مما ذُكر، ويتجاوز اعتبارات كل منهما بمفرده. إذ إن دافعاً رئيساً لما حصل يتّصل بفهم كل منهما لواقع «الجماعة المسيحية» في لبنان على أبواب تشكّل خرائط جديدة في المشرق وتثبيت توازنات ستُعمّر فيه لسنوات أو عقود قادمة على الأرجح. وهذا، بالنسبة لهما، يستدعي تكتّل المكوّن المسيحي أو معظمه حتى يكون رقماً يُعتدّ به في أي معادلة مقبلة. وبرغم أن المعادلات داخل الدول، طائفيةٌ قميئة، إلا أن الرجلين أصلاً لم يدّعيا علمانية تامّة حتى يُلام أيٌ منهما على تجاوزها. وإن كان اصطفاف غيرهما على المنوال الطائفي، فهل يُستغرب، منطقياً، أن يقفا خارج هذا الاصطفاف، في لحظة تشكّل الإقليم وغياب البدائل، وفي ظل الدروس التاريخية لحروبهما التي لا بد أنهما تعلّما منها شيئاً؟
إثر إعلان «ورقة التفاهم» الجديدة بين المارونييْن القوييْن، سألت مذيعة على إحدى قنوات التلفزة المحلية نائباً عن «تكتل الإصلاح والتغيير»، الذي يرأسه عون، عما إذا كان يرى في التآلف بين الأخير وجعجع مشهداً سوريالياً، فأجاب النائب بتأكيده هذا الأمر.
بمعنى من المعاني، التفاهم بين عون وجعجع ليس سوريالياً إطلاقاً. هذه ليست «فشة خلق» من جعجع على استبعاده من دائرة التشاور من قبل حليفه الحريري ولا هي «خطوة غير منطقية». هذا خيار مدروس بمنطق السياسة ومن الموقع الذي يحتلّه كلٌ منهما. أما احتمالات نجاح المراد منه أو فشله٬ على كل المستويات، فتلك قضية أخرى.
فلنضع رغبتنا بالتفجع من الأحداث السياسية في لبنان أو التفاجؤ من خروجها عن المألوف جانباً، أو أقله فلنقرأها بتمعن: رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري رشّح سليمان فرنجية، أحد صقور قوى «8 آذار»، لرئاسة الجمهورية. تلك كانت الخطوة الغريبة٬ لا هذه.