ليس تفصيلاً أن يبادر الدكتور سمير جعجع إلى التوسّط بين الرئيس سعد الحريري والعماد ميشال عون في محاولة لإعادة تنشيط القنوات الحوارية بينهما والتي توقفت بفعل الخلاف حول التعيينات العسكرية وآلية العمل الحكومي.
لولا «وثيقة النوايا» بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» لما تمكّن جعجع من الدخول على خطّ تقريب وجهات النظر بين الحريري وعون، حيث أتاحت له العلاقة المستجدّة مع رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» توسيعَ هامش حراكه السياسي والقيام بمبادراتٍ وطنية كانت متعذِّرة بفعل الانقسام الحاد، هذه المبادراتُ التي كانت حتى الأمس القريب محصورة، على رغم محدوديّتها، بالرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط.
وقد دلّت الأزمة اللبنانية أقلّه في السنوات العشر الأخيرة على غياب الشخصيات والقوى السياسية التي تتحرّك على خطّ توسيع المشترَك بين فريقَي النزاع، والأمر نفسه ينطبق على الفريق الواحد، حيث يصعب إيجاد مَن يُصلح أيّ تباين أو خلاف بين الحلفاء قبل الخصوم، وهذا مؤشرٌ خطير وينمّ عن اتكاليةٍ على الخارج واستقالة من الأدوار الداخلية.
وعندما تُبادر أيّ شخصية لا يعني تخلّيها عن ثوابتها وتموضعها الوطني، بل محاولة لكسر حدة الاصطفاف القائم في ظلّ ظروف مواتية، الأمر الذي ينسحب على الحريري وعون معاً، لأنّ العلاقة بينهما كانت قد قطعت شوطاً كبيراً قبل أن تنتكسَ مجدَّداً.
وعلى رغم أنّ الخلاف هو من مسؤولية الحكومة التي لا تشارك فيها «القوات»، إلّا أنّ عدم دخول جعجع على خطّ الخلاف مكّنه من لعب هذا الدور، حيث إنّ خلافَ ذلك كان سيجعله طرفاً في المواجهة، وبالتالي أهمية دخول جعجع على خط الحريري-عون تكمن في الآتي:
أولاً، تجميد الخلاف بينهما قبل أن يبلغ التصعيد مستوياتٍ تصعب معها العودة إلى الوراء، خصوصاً أنّ التصعيد بين الجانبين ما زال دون تعرّض عون لشخص الحريري والعكس صحيح.
ثانياً، إعادة ترميم وإصلاح العلاقة بين الرجلين قطعاً للطريق على القوى المستفيدة من هذا الخلاف الذي يضع عون وجمهوره مجدَّداً في أحضان «حزب الله».
ثالثاً، إعادة تركيز قواعد الصراع الوطني وعدم تحويره بالاتجاه الذي يخدم القوى التي تريد توسيعَ رقعة الخلاف بين اللبنانيين بدلاً من تضييقها.
رابعاً، الحؤول دون جرّ المسيحيين إلى خلافاتٍ من طبيعة طائفية على غرار ما حصل أخيراً من خلال تصويره بأنه خلافٌ مسيحي-سنّي، فيما ذلك غير صحيح أولاً، ولأنّ المسيحيين هم الأكثر تضرّراً من صراعات من هذا النوع ثانياً.
خامساً، التباين الذي ظهر بين عون وكلٍّ مِن الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله والنائب سليمان فرنجية، لا يعني أنّ الأمور وصلت بينهم الى حدِّ التخلّي عن عون، وبالتالي الرهان على التمايز وتوسّعه في غير محلّه.
سادساً، الرهان على كسر عون هو وهم نسبة لحجمه التمثيلي، ولا بأسَ هنا من التذكير بنظرية الوزير السابق كريم بقرادوني بأنّ خسارة أيّ شخصية سياسية لجولة لا يعني خسارتها للحرب، ودورها يبقى قائماً طالما ما زالت قادرة على التنفس.
سابعاً، لا يجوز إعطاء الانطباع بأنّ الحوار ضروري مع الطرف الذي يملك سلاحاً، وغير ضروري مع الطرف الأعزل.
ولكنّ حوارَ تيار «المستقبل» مع «التيار الوطني الحر» يختلف عن حواره مع «حزب الله»، لأنّ الهدف من الحوار الأخير تنفيس الاحتقان، فيما هدفُ عون من حواره مع «المستقبل» انتزاع مطالب رئاسية وعسكرية، وبالتالي في ظلّ تعذّر تحقيق هذه المطالب لا بدَّ من الحوار من أجل تعطيل الخلاف ومحاولة الوصول الى منطقة وسطى كما دعا وزير الداخلية نهاد المشنوق.
والوصولُ إلى منطقة وسطى، وهو عين الصواب، يعني تنازل كلّ الأطراف وفي طليعتهم عون الذي لا يستطيع وضعَ الجميع أمامَ معادلة إما شروطي أو أخرب البلد، أو وضعه لعدم تنفيذ مطالبه في سياق استهداف المسيحيين، لأنّ وصوله إلى الرئاسة يتصل بتعقيدات الصراع السنّي-الشيعي وتوازناته، ولا أحد يريد إبعادَه من هذا الموقع ربطاً بحيثيّته التمثيلية.
وما ينطبق على الرئاسة ينسحب على قيادة الجيش التي تمّ التعامل معها من البداية وفق طريقة خاطئة من خلال حصر البدائل بشخصية واحدة، على رغم أهميتها، كما أنه لا يجوز إقفال باب الرئاسة وقطع الطريق في آن معاً على الشخصيات التي تملك حظوظاً مهمة في تبوُّء هذا الموقع.
ومن هنا يجب الوصول إلى مخرجٍ تتعهّد كلّ الأطراف الالتزامَ بنتائجه، وقد يكون أفضل مخرج الذهاب إلى انتخابات نيابية بعد الاتفاق على قانون جديد للانتخابات، خصوصاً أنّ عون ليس بوارد التراجع عن ترشيحه، وهو مَن اقترح هذا المخرج الذي يستدعي الالتزام والتعهّد بثلاثة شروط أساسية:
الشرط الأول، الإسراع في الاتفاق على قانون جديد للانتخابات.
الشرط الثاني، النزول إلى البرلمان المنتخب لانتخاب الرئيس الجديد بعيداً من أيّ تعطيل للنصاب، وفي حال اللجوء إلى التعطيل الاتفاق على انتخاب الرئيس بالنصف زائداً واحداً لمرة واحدة.
الشرط الثالث، التمديد لقائد الجيش والضباط من أجل حفظ حقّ الجنرال جان قهوجي بالرئاسة وحقّ هؤلاء الضباط في قيادة الجيش.
ولا يجوز أساساً أن يحفظ عون حقّه في الرئاسة، وأن يحرم هذا الحقّ على غيره، والحملة على قائد الجيش تستدعي الالتفاف حوله، لأنها من طبيعة فئوية، وإذا كان كسرُ عون غير مرغوب، فإنّ كسر قهوجي غير مرغوب بدوره، لأنه يشكل سابقة غير مقبولة.
والتجاوبُ مع طرح عون بالذهاب الى تنظيم انتخاباتٍ لا يعني الخضوع لشروطه، إنما من أجل الخروج من الأزمة، ولأنّ مجلس النواب ممَدّدٌ له، وبالتالي كلّ الأمل أن ينجح الدكتور جعجع في إدارة حوار بين الرئيس الحريري والعماد عون يؤدّي إلى إخراج لبنان من أزمته الوطنية على قاعدة لبننة الحلول، ولو لمرة واحدة، بدلاً من تدويلها…