Site icon IMLebanon

جعجع وجلجلة الطائف..25 عاماً من مطار القليعات إلى البرلمان

الأربعاء الماضي 5 تشرين الثاني 2014 كان ذكرى مرور خمسة وعشرين عاماً على تصديق النواب اللبنانيين على وثيقة الوفاق الوطني في مطار القليعات.. وللأمانة التاريخية كان الفضل الكبير في ذلك الإقرار لزغرتا وإهدن والكتائب والقوات اللبنانية والشخصيات المسيحية المستقلة وللدعم الكبير والصلب  لصاحب الغبطة مار نصر الله بطرس صفير.. ولولا هذه الإرادة الوطنية الصادقة للبنانيين الموارنة لما دخل لبنان في بناء مسيرة السلم الأهلي الطويلة والمريرة..

الخامس من تشرين الثاني 1989 عرف اللبنانيون المسلمون أهمية لبنان الوطن والدولة والتجربة الوطنية.. وكيف أنّ لبنان بكلّ أطيافه ومكوّناته قضية كنسية.. لأنّها معجزة الكنيسة المارونية أي «أعجوبتها» التي عرفت منذ زمن بعيد بأنّها كبيرة في لبنانها الكبير.. والذي حمل قضيته البطريرك الحويك وتحققت في الأول من أيلول 1920.. وهي أنّ  اللبنانيين.. مسلمين ومسيحيين.. قادرون على العيش معاً على  10452 كلم٢.. وفي دولة واحدة وعائلة وطنية واحدة.. وأنّ المسيحيين بلبنانهم الكبير أكبر بكثير من كونهم جماعة صغيرة في بحر المسيحية الكبير.. وهذا ما أدركه المسلمون اللبنانيون في الخامس من تشرين الثاني 1989 في مطار القليعات.. أي  أنّهم بلبنانهم أكبر من كونهم جماعة صغيرة في البحر الإسلامي الكبير وذلك ألف باء أن تكون لبنانياً مسلماً كنت أو مسيحياً..

كانت مرارات اللبنانيين المسيحيين من أجل الوفاق الوطني  كبيرة.. كنيسة وقوى سياسية.. إذ تعرضت الكنيسة المارونية الكبيرة  وغبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير إلى ضغوط مؤلمة.. وكلّنا شاهدناها وتابعناها بمرارة أيضاً وليس من حقنا التّدخل بين الكنيسة ورعيتها لكن عموم اللبنانيين معنيّون بسلامة بكركي الوطنية بما هي صاحبة معجزة التجربة الوطنية للبنان الكبير.. ولم تتأخر رسائل الانتقام من البطريركية المارونية فكان اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب في 22 تشرين الثاني يوم الاستقلال..

أسبوعين فقط عاشهما اللبنانيّون مع الأمل بإنسياب آمن لمسيرتهم السلمية ومعالجة التمرد العسكري الذي رفض الوفاق الوطني  واتفاقه ووثيقته ورئيسه.. حاولتْ الكنيسة المارونية معالجة تداعيات اغتيال رئيس الجمهورية وطلبتْ مهلة أسبوع لتأمين انتخاب رئيس بديل.. إلاّ أنّها لم تعطى ذلك وكانت الرسالة واضحة ممن يريدون أن يكون لبنان أزمة سياسية دائمة كما يفهمها السياسيون الطامحون للسلطة.. وليس كما تفهم الكنيسة المارونية لبنان بما هو قضية ومعجزة كنسية..

اجتمع صنّاع وثيقة الوفاق الوطني « الطائف» على الشروع في تنفيذ الإتفاق والذي أكّد على المناصفة.. إذ كان عدد النواب قبل الطائف 99 نائباً مقسّمين الى 54 نائب مسيحي و45 نائب مسلم.. وأصبح عدد النواب بعد الطائف 108 مناصفة بين المسلمين والمسيحيين.. وتم تعيين الإضافات والمقاعد الشاغرة بالوفاة.. وتمّ التمديد للمجلس دورة نيابية كاملة لأربع سنوات من اجل استكمال مهامه التطبيقية لوثيقة الوفاق بقوانينها واصلاحاتها واستراتيجياتها الإنمائية وتقسيماتها الإدارية والانتخابية والتأسيس لإلغاء الطائفية السياسية..

كانت السنوات الأولى للجمهورية الثانية بالغة الصعوبة بسبب الرغبة في الهيمنة على السلطة في لبنان.. وكان هناك صراع واضح بين صنّاع الطائف وحكّام الطائف ورعاتهم.. مع استمرار التّمرد العسكري الذي أعطى أسباباً  لكلّ استثناءات السلطة والمخالِفة للطائف.. وشُكلت ثلاث حكومات خلال سنتين ونصف حتى جاء لقاء «المعلقة» بين الأميركيين والسوريين في دارة رئيس الجمهورية.. و ذلك بعد عاصفة الصحراء في الكويت.. وأطلقت يد سوريا مجدداً في لبنان.. فكانت المهمة الأولى هي الخلاص من برلمان الطائف ووضع قانون انتخاب يختصر ولاية المجلس النيابي تقريبا سنتين وسبعة أشهر ويرفع عدد النواب الى 128 نائباً..

اعترضت الكنيسة المارونية على انتخابات 92.. واعتبرتها خروجاً على اتفاق الطائف.. وهذا صحيح.. ودعى البطريرك صفير الى مقاطعة الانتخابات فانتُخِب نواب موارنة بــ43 صوت..  وكانت هذه الانتخابات الطعنة الثانية للكنيسة المارونية بعد عملية اغتيال رئيس الجمهورية وانتخاب خلفاً له وبدء ما عُرف بالإحباط المسيحي.. ثم جاء اعتقال سمير جعجع ليكون بمثابة رسالة إلى كلّ مسيحيي الطائف اغتيالا ً واعتقالاً..

جاءت تجربة الرئيس الحريري الأهلية عبر مؤسسته الإنمائية  وحكوماته الإعمارية وما رافقها من تقدم اقتصادي واجتماعي.. فتجاوزت بشكل واضح التّعسر السياسي الذي كان منشغلا ً بتعطيل المسيرة الإنمائية بعد ان عَطَّل المسيرة الإصلاحية.. ولاقت هذه التجربة الحريرية وداً وترحيباً من شركاء الطائف من اللبنانيين المسيحيين.. وخصوصاً الكنيسة المارونية.. وكانت خمسة وعشرون عاماً من التّحدّي والتّضحيات والمقاومة والإعتقالات والخيبات والإنقلابات والإغتيالات.. وأنّ إجتماع النواب في 5 تشرين الثاني 2014 في المقرّ الرسمي للبرلمان في ساحة النجمة كان تجنّباً للاجتماع مرة أخرى في مطار القليعات.. وأنّ إقرار التّمديد لسنتين وسبعة أشهر وبتأييد من أهل الطائف من اللبنانيين المسيحيين وتحديداً القوات اللبنانية والنواب المستقلين وكتلة فرنجية هو انتصار للتجربة الوطنية وللدولة المهدّدة بالفشل التام عبر الفراغ في السلطات والمؤسسات.. وأنّه تصحيح كبير للإنحراف الذي أحدثه حلّ المجلس النيابي في عام 92 وعدم الإكتراث لمقاطعة المسيحيين للإنتخابات النيابية..

يجب أن نعترف بالضغوطات الكبيرة التي مورست على سمير جعجع في الأيام الماضية بغوغائها وضجيجها والتّغريدات من قبل الذين يُغلِّبون السلطة على الوطن.. وأن نقدّر موقف القوات اللبنانية من التّمديد من أجل بقاء الدولة وليس البقاء في الدولة.. وعلى يقينهم بأنّ ما من خلاص لجماعة من اللبنانيين دون خلاص جميع اللبنانيين.. وفي ذلك حسّ رفيع بالمسؤولية و بالمصلحة الوطنية العليا..

كانت جلجلة سمير جعجع مع الطائف قاسية وطويلة.. من 5 تشرين الثاني 1989 الى 5 تشرين الثاني 2014.. أي خمسة وعشرين عاماً من مطار القليعات إلى البرلمان..