ترشيح سعد الحريري للنائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية مشروع سياسي متكامل يشمل تقاسم السلطة أولاً وإعادة الحالة السياسية المسيحية إلى ما كانت عليه في عهد الوصاية السعودية ـ السورية من بيوتات تقف مع الواقف ثانياًَ، بهدف إضعاف حزب الله من جهة، وإراحة الحريري وغيره رؤوسهم من ميشال عون وسمير جعجع من جهة أخرى. جعجع بدأ من الرابية انتفاضته لإسقاط هذا المشروع، وهو ينجح في انتفاضاته عادة
غسان سعود
انطلاقة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع العسكرية كانت من مجزرة إهدن. أما انطلاقته السياسية، فتطلبت انتفاضتين متتاليتين؛ الأولى على الرحم الكتائبيّ الذي خرج منه، والثانية على إيلي حبيقة وغيره من أبناء البيت الواحد. والتشابه كبير بين علاقة جعجع بكل من إيلي حبيقة يومها، وعلاقته بسعد الحريري اليوم؛ فما كاد حبيقة يحقق حلم جعجع بمحاصرة آل الجميل في بيتهم، حتى بدأ جعجع (رئيس الأركان في القوات) الإعداد لإلغاء حبيقة (رئيس المجلس التنفيذي للقوات يومها)؛ تماماً كما استفاد اليوم من «كل الكرم» الحريريّ تجاهه ليبدأ انتفاضته ضد نفوذ الحريريين المسيحي، علماً أن أحد مآخذ جعجع على حبيقة في تلك الأيام كان تصالحه مع آل فرنجية، إضافة إلى تعامله مع سوريا بوصفها القوة الرئيسية على الأرض اللبنانية.
ومن يذهله تبني جعجع ترشيح العماد ميشال عون اليوم لا يلاحظ أن المدرسة الأمنية والسياسية الكتائبية كانت في إسرائيل إلا أن جميع تلامذتها احتفلوا بتخرجهم في دمشق، فالغاية في هذه المدرسة تبرر دوماً الوسيلة.
خطوة جعجع الأولى بعيد ترشيح الحريري لفرنجية كانت نقل ملف الحوار مع التيار الوطني الحر من مستوى الانفتاح الشكلي إلى التحالف الجديّ. العودة إلى علاقة جعجع والجنرال خلال حربهما تبين اتخاذ جعجع مجموعة خطوات للظهور أمام الرأي العام بمظهر الضحية الذي يكمل طريقه إلى بعبدا للقاء الجنرال برغم محاولة اغتياله في الطريق، ويوقف بث نشرات الأخبار السياسية على وسائل إعلام القوات كبادرة حسن نية تجاه الجنرال، ويواصل الاعتراف بشرعية الحكومة العونية وغيرها وغيرها. وفي كتاب «هذه شهادتي» للكاتب المقرب من جعجع بول عنداري يتبين أن جعجع كان يظهر للرأي العام محاولته استيعاب عون فيما هو يقول عنه خلال اجتماعه برؤساء أجهزة القوات: «نحن اليوم في مواجهة رجل مريض بكل معنى الكلمة. شخصيته في حاجة إلى فشة خلق. مواجهته تتطلب ذكاء وذكاء وذكاء». وقد عاد جعجع إلى استخدام الأسلوب نفسه حين دفع باتجاه التهدئة الإعلامية مع العونيين وإعطاء النائب ابراهيم كنعان فرصة لتوفير قواسم مشتركة بين حزبيهما؛ إلا أن خطوة الحريري دفعته إلى فعل ما لم يفعله عام 1989: ترشيح عون لرئاسة الجمهورية. وكتب الكثير في هذا السياق عن مكاسبه من هذا الترشيح التي تتضاعف يوماً تلو آخر.
الخطوة الجعجعية الثانية ركزت على تحصين التفاهم إعلامياً أولاً وكنسياً ثانياً. وفي وقت كان فيه فرنجية يلازم منزله مشغولاً باختيار البذل الملائمة لمرحلة التتويج، نشطت ماكينتا التيار والقوات في إقفال كل الثغر التي يمكن أن يتسرب منها نفوذ مسيحيّ يعزز وضع بنشعي: من الإحصاءات المدفوعة إلى المجالس البلدية، مروراً بالرهبانيات طبعاً والرابطة المارونية التي تبين استعداداتها الانتخابية أن نفوذ عضو تكتل التغيير والإصلاح النائب نعمة الله أبي نصر في ما يوصف بنادي النخب المارونية أكبر بعشر مرات من نفوذ النائب الزغرتاوي.
اليوم ينصرف جعجع إلى متابعة «تفاصيل تفاصيل» الانتخابات البلدية؛ لا حباً بأختام المخاتير إنما لتوجيه أقوى ضربة ممكنة للمشروع الحريريّ. ومتابعة الاستعدادات الأولية تتيح ملاحظة ثلاثة أمور في حركة جعجع وتصريحاته:
أولاً، توجيه ضربات موجعة للنواب الحريريين ومن سبق أن استخدمهم الحريري في استحقاقات سابقة ــ كالقانون الأرثوذكسي ــ لإحراج جعجع والقول إنه لا يتحدث باسم مسيحيّي 14 آذار. ففي البقاع الغربي ليس أمام النائب روبير غانم سوى التذرع بحدث طارئ يخرجه من البلد ريثما تنتهي الانتخابات البلدية فيغسل يديه من نتائجها بدل أن يكشف عجزه عن الفوز بمجلس بلديّ واحد في مواجهة العونيين والقوات. أما في القبيات، فتجري اجتماعات رسمية وغير رسمية، شبه يومية، بين العونيين والقوات تقطع طريق البلدية على النائب هادي حبيش الذي سيلتحق بالائتلاف لحفظ ماء وجهه أو يخوض معركة للقول إنه يمثل 10 أو 15 في المئة من الناخبين في قريته. أما في البترون، فيعد العونيون والقوات لاستعراض قوى على امتداد القضاء يقنع النائب بطرس حرب أخيراً أن حجم زعامته يتيح له – ربما – تسمية مخاتير تنورين، لا الاعتقاد ــ مجرد اعتقاد ــ أنه يصلح لتأمين غطاء مسيحي لتيار المستقبل بديل عن جعجع. وما ينطبق على حرب، ينطبق بحذافيره على النائب المستقبليّ الآخر فريد مكاري. في وقت تتجه فيه ماكينتا التيار والقوات إلى خوض معارك جدية في قضاء زغرتا بهدف القول: «فرنجية أبو زيد خاله في حال فوزه بأكثر من أربعة مجالس بلدية». وفي كسروان تنوي ماكينة العونيين والقوات تجاوز «دشمة» رئيس جمعية الصناعيين السابق نعمة افرام بعد حسمهما وجوب تجاوز من يظهرون لهما وجهاً في أحد الانتخابات، ووجهاً آخر يوم الإثنين. أما الهدف الأهم من هؤلاء جميعاً فهو رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل الذي لا يفوّت الحريري فرصة إلا ويستغلها للإيحاء بأنه يعول عليه مسيحياً، وله ستذهب كل المخصصات القواتية السابقة. ومن قرأ الرد القواتي على الوزير سجعان قزي قبيل سحبه أمس فهم ما تخبئه الأيام المقبلة لهذين الحزبين؛ من انتقادهم «تملص رموز حزب معاليه وتناسيهم في الكثير من مواقفهم وأدائهم الإنبطاحي مبادئ 14 آذار»، إلى تذكيرهم بـ «تبويس الكتائبيين لحى خصومهم على قاعدة الحسابات العائلية والعشائرية والمصالح الصغيرة». والجميل كان يحسب قبل أشهر أنه سيفوز برئاسة اتحاد بلديات المتن قبل أن يتبين أخيراً أنه سيكون في افضل حالاته في حال حفاظه على تمثيله البلديّ الحالي. والواضح من سن الفيل إلى القرى الصغيرة المحيطة ببكفيا أن ما سبق لن يكون أبداً مهمة سهلة. ولا شك أن إراحة العونيين والقوات للنائب ميشال المر، سواء في البلديات العزيزة عليه، أو في ضمان مستقبل ورثته السياسيين، يكفيه لتحقيق أخيراً حلم جعجع القديم بعزل الرئيس أمين الجميل في منزله.
ثانياً، استقطاب من يدورون في فلك 14 آذار لكنهم غير مرتهنين مالياً وسياسياً لتيار المستقبل. ففي جبيل مثلاً يسحب جعجع بساط رئيس البلدية زياد حواط من تحت تيار المستقبل والنائب سليمان فرنجية، عبر احتضان حواط وإقناع العونيين بوجوب تجاوز حساسيتهم منه. وتتحدث مصادر القوات بحماسة عن وجوب استغلال الانتخابات البلدية لطمأنة الرأي العام غير المتحزب أن تفاهم عون وجعجع لا يلغي من يتمتعون بالكفاءة والصدقية ولا يستوجبون الإلغاء.
عين جعجع على كسر حبيش ومكاري وحرب وغانم وطبعاً سامي الجميل
وما ينطبق على حواط في جبيل يسعى جعجع لتطبيقه في بيروت أيضاً مع النائب ميشال فرعون الذي يكتفي بمقعده النيابيّ في الأشرفية فيما تؤمن ماكينته التي يدفع تكاليفها من جيبه الخاص، لا من جيب المستقبل، فوز 14 آذار بخمسة مقاعد نيابية. ويشير أحد المواكبين لحركة جعجع أن استيعاب عون وجعجع أحدهما للآخر، برغم كل خصومتهما، يبشر بقدرتهما على استيعاب عدة نواب حاليين وسابقين وعدم توفير جهد لمنع خصومهما المشتركين من الفوز. والأكيد أن «غريزة البقاء» لدى أبناء البيوتات السياسية ستدفعهم إلى مقارنة عائداتهم من التحالف مع كل من عون وجعجع أو مع فرنجية. والقائمة هنا تطول لتشمل صديق فرنجية النائب السابق فريد هيكل الخازن: فهل سيعلن الأخير أن صداقته وفرنجية شيء والسياسة شيء آخر إذا عرض عليه القوات والعونيون مقعداً نيابياً مضموناً على لائحتهما المشتركة يوماً ما، أم سيخوض انتخابات غير محسومة النتيجة باسم المستقبل وفرنجية احتراماً لصداقتهما؟ والأهم على هذا المستوى هو مدينة زحلة التي ستكون الانتخابات البلدية فيها «بروفا» أولية لتحديد حجم العونيين والقوات (وآل فتوش؟) من جهة، وحجم كتلة النائب الراحل الياس سكاف من جهة أخرى، لكن في المرحلة التالية يفترض أن يتسع قلب العونيين والقوات للسيدة ميريام سكاف التي تعلم جيداً أن احتفاءها بالحريري لا يوصلها بالضرورة إلى المجلس النيابي، أما انضمامها إلى عون وجعجع (وفتوش؟ وحزب الله؟) في أي تحالف انتخابي مقبل فيضمن لها المقعد النيابي ويوفر عليهم جميعاً المعركة.
ثالثاً، يضغط جعجع باتجاه التحالف الانتخابي الشامل مع التيار الوطني لحر ويسعى باجتهاد لإخراج الانتخابات البلدية من «الإطار الضيق الصغير»، مؤكداً أن «الناس مفروزون في السياسة ولهم اراؤهم وخيارهم وسينتخبون على هذا الاساس»، لتحويل التفاهم مع العونيين من فوق إلى تحالف انتخابي من تحت، مستفيداً من حساسية الانتخابات البلدية وجدية ما تفرزه من تحالفات وخصومات لتوطيد علاقة الجمهورين المتخاصمين، علماً أن التحالفات البلدية يمكن أن «تدوم وتدوم وتدوم»، وهي فرصة نادرة لجعجع من أجل دخول غرف التيار السرية والحصول على نسخ من لوائح الشطب الخاصة بماكينته من جهة، وتكريس حضوره على نحو مضخم في جميع المجالس البلدية في جبل لبنان.
والخلاصة تفيد بأن الانقلاب الحريريّ المتسرع على جعجع دون خارطة طريق واضحة يقابله انقلاب مضاد هادئ ومدروس لإسقاط سيناريو تجميع فرنجية للبيوتات السياسية تحت عباءته قبل أن يولد (هذا السيناريو). فقد غاب عن الحريري وفرنجية أن البيوتات السياسية التي استنهضتها الحريرية السياسية من تحت أنقاض الحرب الأهلية في بداية التسعينات استفادت من الفراغ الحزبي المسيحي لكسب بعض الشرعية التمثيلية. اما اليوم، فما من فراغ؛ ثمة حزبان كبيران يملكان كل ما يحتاجانه لعدم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وما عجز فرنجية عن تحقيقه أيام الساحة الخالية، كيف سيحققه اليوم؟
عودة إلى مواجهة «الإقطاع»؟
النقاش في بعض الصالونات المؤيدة لتحالف القوات والعونيين يفيد بتكوّن، أو بدء تكوّن، خطاب معارض للبيوتات السياسية يصفها بالمشكلة الأساسية، بعدما كانت هي الحل لسنوات طويلة. هذا الخطاب كان سائداً منتصف الثمانينيات، لكنه سرعان ما تلاشى في ظل إبعاد ميشال عون وسمير جعجع واضطرارهما إلى التحالف مع هذه البيوتات بعد عودتهما.
بدء تكوّن خطاب معارض للبيوتات السياسية بعد التحالف العوني ـ القواتي
وبدأت ترتفع أصوات تفيد بأن الوظائف الإدارية هي مجرد تفصيل في ملف “الحقوق المسيحية المهدورة”؛ فأساس الموضوع يتعلق بتفاصيل معيشية ترتبط بميزانيات الوزارات المخصصة لأقضية جبل لبنان (أو ما يوصف بالأقضية المسيحية) مقارنة بالأقضية الأخرى: بعدم وجود مستشفى حكومي واحد في المتن الشمالي يقارن بمستشفيات بيروت والشمال والجنوب وغيرها، بعدم وجود محمية أو مدينة رياضية أو مشروع سياحي جدي واحد، علماً بأن أوتوستراد الرئيس إميل لحود، أو ما يعرف بالمتن السريع، ما كان ليمر رغم زحمة الأوتوسترادات في بيروت ومحافظات أخرى لولا ضغط الرئيس لحود الهائل في أقوى أيامه. وحتى الزفت، كان العماد ميشال عون مضطراً إلى تقديم تنازل هائل في موضوع شركة طيران الشرق الأوسط لتأمينه للكسروانيين من وزارة الأشغال العامة والنقل. ويمكن من يشاء المقارنة دائماً بين حالة الشاطئ المتني المزدحم بمكبات النفايات وشاطئ عكار، مثلاً، أو صور أو الرملة البيضاء أو الجية والرميلة والدامور، لتتضح الصورة في رأسه. والحديث القواتيّ ــ العونيّ عن هذه جميعها لا يستهدف تيار المستقبل والرئيس نبيه بري، بل الزعامات المسيحية التقليدية التي شاركتهما الحكم: ميشال المر وهادي حبيش وفريد هيكل الخازن وبطرس حرب وفريد مكاري وغيرهم ممن قايضوا المشاريع الإنمائية الكبيرة بخدمات فردية تتيح لهم استقطاب الناخبين وأسرهم، إضافة إلى أن شبكة مصالح هؤلاء منعت استعادة القرى الجبلية في أقضيتهم لدورها السياحي والزراعي السابق للحرب: ماذا سيحصل بمشروع الزعرور السياحي وعائداته الخيالية على آل المر في حال التفات الوزارات المعنية إلى محطة التزلج المهملة في قناة باكيش؟ وماذا سيحصل لكل المجمعات البحرية المخالفة في جبيل والمتن وكسروان في حال قررت الوزارات المعنية تحرير شاطئ عام صغير في هذه الأقضية؟ لتتخذ بذلك مواجهة المشروع الحريري الجديد القديم طابعاً ثورياً يتمتع بكل المقومات لاستقطاب الرأي العام وتعبئته، خصوصاً أن الدفاع عن أبناء البيوتات السياسية وأدائهم يقتصر على الأزلام والمنتفعين منهم مباشرة، أو من يخشون على مصالحهم منهم. أما غالبية الرأي العام فملّت تنقلهم من مرجعية إلى أخرى وتوزيعهم الأدوار أو الولاءات داخل البيت الواحد حتى تضمن العائلة استمراريتها. والعائلة في حالة النائب هادي حبيش مثلاً ليست سوى مجموعة أعضاء في شركة “كفرحباب سيتي سنتر” التي يرأس مجلس إدارتها النائب السابق فوزي حبيش. وهي تعنى وفق نظامها الداخلي بـ: “استخراج الرمول، وتنظيف الاحواض البحرية ومآخذ مياه التبريد في المؤسسات العامة والخاصة، لا سيما مؤسسة كهرباء لبنان، وتعهد الحفريات في البر والبحر، وتجارة الاسمنت والبحص والرخام والبلاط، وتحضير وتوضيب وتوزيع المأكولات بكافة أنواعها، وتنظيف الغرف والكوي للإدارات الرسمية والخاصة والقوات المسلحة، وإقامة المجمعات والمحلات التجارية، وبناء الأبنية الرسمية، واستيراد الألبسة والاحذية الرياضية”.