رفعَ الدكتور سمير جعجع قضية الفساد إلى مصاف القضايا السيادية التي تستحق كلّ نضال وتضحية، وحوَّلها عملياً إلى المهمّة الأولى التي على الرئيس المقبل جعلها بنداً أوّلاً في خطاب قسَمِه الرئاسي.
فاجأ الدكتور جعجع المتابعين لخطابه في الذكرى السنوية لشهداء «القوات اللبنانية» بتحويله الفساد إلى نقطة ارتكاز محورية في كل مضامين هذا الخطاب، ولم يكتفِ بجعله مجرّد عنوان من عناوين كثيرة، ما يدلّ على الأولوية التي يوليها لهذه القضية التي فرَضَت نفسها على كل القوى السياسية وباتت تَحظى باهتمام الأغلبية الساحقة من اللبنانيين.
ومِن الواضح أنّ رئيس «القوات» حاول أن يجعل الملف الأوّل على أجندة الرئيس المقبل، كما الحكومة المقبلة، مكافحة الفساد، وأن يدفعَ نحو العمل بطريقة مختلفة عن السائد منذ سنوات، إذ بات من الصعوبة بمكان استمرار النهج ذاته الذي أقلّ ما يقال فيه إنّه يعكس استهتاراً واستخفافاً بمصالح المواطنين.
ويبدو أنّ مزاج الرأي العام اللبناني، بفِعل عوامل واعتبارات عدّة، لم يعُد يبَدّي الأولوية الوطنية على الأولوية المطلبية، ومِن أبرز هذه العوامل صعوبة الوصول إلى دولة سيّدة على أرضها وممسِكة بقرارها الاستراتيجي.
ولذلك، في موازاة المواجهة السيادية لا بدّ من مواجهة من طبيعة أخرى، لأنّ استمرار الوضع على ما هو عليه طويلاً سيَجعل الانهيار كاملاً، فيما فصلُ المعركتين يَدخل في صميم سياسة الصمود المطلوبة في هذه المرحلة من أجل تشجيع الناس على البقاء في لبنان.
وقد شكّلت يقظة الرأي العام، بالنسبة إلى «القوات»، مناسبةً للتأكيد على صوابية موقفِها من المسائل الآتية:
أوّلاً، ضرورة تأليف حكومات تكنوقراط تَحظى بغطاء وطني من 8 و 14 آذار، حيث إنّ التجربة الأخيرة وما سبَقها أكّدَت عقمَ تجربة حكومات الوحدة الوطنية. وقد يؤدّي ضغط الرأي العام، ربّما، إلى تأليف حكومة تكنوقراط مطعَّمة بسياسيّين أو العكس، وذلك في مرحلة أولى، لأنّ هناك وزارات سيادية تتطلّب شخصيات سياسية من قبيل الخارجية والدفاع والداخلية.
ثانياً، إذا كانت المواجهة مع الفساد لا تتحقّق بالضربة القاضية إلّا في ظلّ وجود دولة ومؤسسات وقضاء، فإنّ هذا لا يعني ترحيلَ هذه المواجهة إلى ما بعد إنجاز السيادة، بل مِن الضروري فتح هذا الملف على مصراعيه كونه يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من معركة استعادة الدولة لدورها وهيبتها في ظلّ وجود قوى تتذرّع بالأمر الواقع بغية مواصلة فسادها وإفسادها.
كما أنّ تقليصَ مساحة الفساد داخل الدولة يؤدي إلى تقليص مساحة الدويلة، لأنّه يَجعل الشعب متعلّقاً بدولته، لا دويلته، من منطلق أنّها توفر له كلّ العوامل التي تجعله مواطناً حرّاً وكريماً.
ثالثاً، وما ينطبق على الفساد ينسحب على التمثيل الصحيح الذي يُعيد ثقة كلّ المجموعات بالدولة والمؤسسات، ويمكِّن القوى السياسية الإصلاحية من أن تخوض مواجهة تنقيةِ الدولة من الفاسدين، فضلاً عن تمكينها من تحسين شروط مواجهتها السيادية.
وعلى رغم وجود ملاحظات عدّة بشأن التظاهرات في الشارع، إلّا أنّ تعاطف الرأي العام يؤشّر، بالنسبة إلى «القوات»، إلى أنّ الكيل قد طفَح مع الناس، وأنّ عدم التجاوب مع الدينامية الجديدة التي فرَضت نفسها يشكّل عامل تيئيس للشعب اللبناني، أو كأنّ هناك من يريد التأكيد على أنّ لبنان غير قابل للحياة على كلّ المستويات.
ومن هنا ضرورة إعلاء هذه المواجهة في الوقت الراهن من أجل إعادة الثقة للناس، وإسقاط كلّ محاولات تيئيس اللبنانيين من وطنهم ودولتهم بغية دفعِهم إلى الهجرة أو التسليم بخيارات غير دولتية.
وإذا كانت المهمة الأولى للمرحلة المقبلة بعد إعادة تكوين السلطة تتمثّل بالفساد، هذه المرحلة التي سيُشكّل رئيس «القوات» رافعتَها، خصوصاً أنّ مواقفه لقيَت أصداءً إيجابية شعبية ودولية، فإنّ الخلاف يَبرز اليوم على خريطة الطريق للوصول إلى هذه المرحلة في ظلّ وجود أجندتين: الأجندة الأولى للدكتور جعجع ومكوّنات 14 آذار بأنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس جديد ومن ثمّ تأليف حكومة تتولّى التصدّي للقضايا المطلبية الساخنة، وإقرار قانون انتخابي تمثيلي يَفتح الباب سريعاً للذهاب نحو انتخابات نيابية.
والأجندة الثانية للعماد ميشال عون والتي يبدو أنّها ستَحظى بدعم من مكوّنات 8 آذار، وتتمثّل بتقديم الانتخابات النيابية على الرئاسية في ظلّ معلومات أنّ هناك مَن أسَرَّ لعون أنّ 15 دائرة على أساس النسبية تَجعل الفوز مِن نصيب 8 آذار، أو الذهاب إلى انتخابات رئاسية من الشعب.
وفي هذا السياق لا بدّ مِن التدقيق بموقف الرئيس نبيه برّي الذي تبادلَ الغزل وجعجع، كما موقف النائب وليد جنبلاط، خصوصاً أنّ موقف الكنيسة كان واضحاً بإعطاء الأولوية للانتخابات الرئاسية، ومِن دون التقليل من أهمّية المواقف الدولية التي قدّمَت الأولوية الرئاسية على ما عداها من مجلس الأمن إلى الاتحاد الأوروبي، وما بينهما القمّة الأميركية-السعودية، الأمر الذي يَفتح الباب أمام طهران للدخول على هذا الخط وتزكية هذا الخيار.
وقد جاءَت زيارة جعجع لقطر بعد السعودية لتؤكّد على ثلاث مسائل أساسية وهي: عمق علاقاته مع عواصم الخليج ومحور عرب الاعتدال بفعل عامل الثقة بدوره، قطعُه للطريق على أيّ تسوية على حساب لبنان، وتثبيت شراكته في صناعة المرحلة المقبلة.
ويبقى أنّ موقف رئيس «القوات» من الثورة التي أطلقَها ضد الفساد ذكّرَ الجميع بالخطابات والمواقف التي أطلقَها الرئيس بشير الجميّل فور انتخابه رئيساً لجهة إسقاط دولة المزرعة القائمة وإحلال دولة المؤسسات، عِلماً أنّ الفساد الذي كان قائماً بين مرحلة وصول بشير إلى الرئاسة واليوم لا يقارَن