IMLebanon

فَعلها جعجع… المصالحة التاريخية تُوقَّع بعد إحراق «الصفحة السوداء»

أثبتَ قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع أنّ 27 عاماً من الحروب المسيحية – المسيحية تستحقّ أن يَقرن القول بالفعل ويتجرّأ، حيث لم يتجرّأ الآخرون، وفعلها وأثبتَ أنّ الجرح نتيجة تلك السنوات يَلزمه قرار عميق يوازي حساباتها وتضحياتها، فكان حكيماً عندما أعاد قراءة حسابات خاطئة أمعَنت في التشرذم المسيحي، فاتّخذ قراراً شجاعاً في 2 حزيران 2015 وصعد إلى الرابية، ثمّ اتّخذ قراراً تاريخياً في 18 كانون الثاني 2016 صوَّبَ فيه الحسابات الخاطئة ليخلطَ الأوراق في قسمةٍ جديدة تَجمع مَن لا بدَّ مِن جَمعه وتطرَح ما تُريده مصالح المسيحيين وليس ما تُريده مصالح الآخرين، وتقسم من سيختار التقسيم.

أشرقَ الصباح من معراب على رغم الغيوم التي غلّفت الأجواء، فسرقَت الأضواء باكراً على رغم الصقيع الذي لفَّ لبنان وليس المكان. فالحماوة في معراب كانت كفيلة بتدفئة الأجواء، فشخصَت الأنظار إليها بحيث قصَدها البعض لوضع الإصبع، وللتأكّد من الخبَر اليقين، فيما ترَقّب الوسط السياسي والإعلامي الذي احتشد هناك، المشهدَ بشوق وحذَر، يُردّد الواحدُ للآخر في العَلن وفي السر: هل حقّاً سيفعلها الحكيم؟

وَشوَشات من هنا وهناك، فالجميع ينتظر إشارة، يَسترق السمع الى السياسيين، الى النواب، الى الاعلاميين، وسط تخوّف من أن تكون مناورة سياسية ما، إلّا أنّ الحكيم لم يخذل من كان حاضراً لأنّ الجواب كان نَعم حتماً وليس حلماً.

فضحكات المسؤولين في معراب وبَسماتهم المطمئنة واستقبالهم الحارّ، أوحى بأنّ الأجواء مهيّأة لهذا اللقاء، وهم مثل الجميع انتظروا لحظة التلاقي بشوق.

في القاعة الصغيرة قبل منزل الحكيم تهتف الأصوات، الجنرال في بكركي. فعلم الجميع أنّ وصوله أصبح وشيكاً. تمنّى عون من الصرح البطريركي على الجميع أن يدعو له بالتوفيق: «تمنّولنا التوفيق»، فأجاب الحاضرون داخل القاعة في معراب بصوت واحد: «الله يوفّقك»، بعدما شخصَت العيون الى الشاشة الكبيرة، ليقول احدهم «حلّها»، ويعلّق آخر «نعم حان الوقت لكي يلاقيَ عون الحكيم في معراب».

وهكذا فعل الجنرال الذي وصَل الى معراب في ظلّ طقس ماطر وغائم لم يمنَعه من الخروج بضحكة عريضة من السيارة التي أقلّته، فيما سارَع الحكيم إلى عناقه بشدة، وقد لاقت حماوة العناق حماوة التصفيق ولاحَظ الجميع دمعةً حبَسها جعجع بصعوبة، وقد بقيَ ممسِكاً بذراع الجنرال ورافقَه الى الداخل ومعهما عرّابا اللقاء، النائب ابراهيم كنعان ورئيس جهاز الإعلام والتواصل في «القوات» ملحم الرياشي، والنائب جورج عدوان ووزير الخارجية جبران باسيل، الذي سَبق الجنرال بساعات طويلة الى معراب، وتسامرَ مع الحكيم وعقيلتِه النائب ستريدا جعجع في جلسة حميمة مطوّلة، ولم تفارق الابتسامة وجه باسيل طوال فترة اللقاء قبل وصول الجنرال وخلال وجوده. التصفيق علا المكان، ووزّع الجنرال نظرات وسلامات على الإعلاميين من دون ان يحجبَ ضحكةً راضية على الحدث.

التأثّر كان واضحاً على محيّا الجنرال وقد لاحظه الجميع، أمّا الحكيم فكان متأثراً، وقد أثبَت خطابه المكتوب شدّةَ تأثّره، فيما دحضَ إعلانُه تأييدَ الجنرال كلّ شكّ.

جلسة الحكيم مع الجنرال لم تدُم أكثرَ من ثلثِ ساعة، وقد سبَقهم الإعلاميون الى القاعة الكبرى حيث كان ينتظر هناك نواب ووزراء «القوات» ولفيفٌ من السياسيين ورجال قانون وأدباء ومؤيّدين. امتلأت القاعة، وجلس الجميع بصمتٍ ينتظر وصول الجنرال والحكيم، دقائق وتصِل النائب ستريدا جعجع متأبّطةً ذراع باسيل ليعلوَ التصفيق.

لم تكتفِ ستريدا بالتحية والسلام اللذين وجّههما باسيل إلى النائب أنطوان زهرا فسَحبته من يده مصِرّةً على أن يتعانقا، فعَلا الضحكُ والتصفيق.

دقائق قليلة ويطلّ الزعيمان ليقفَ الجميع ويعلو الهتاف والتصفيق الذي استمرّ قرابة خمس دقائق أثناء إلقاء الجنرال السلام، متأبّطاً ذراع الحكيم، على كلّ من جلسَ في الصفوف الأمامية. وعندما اعتلى المنبر وقبل بدءِ الحكيم بتلاوة كلمته المكتوبة، رحّبَ بالجنرال في بيته، فلاقاه الأخير بضحكة راضية ملأت وجهَه.

دمعة الحكيم وغصّة الجنرال

مَن راقبَ المشهد بدقّة، وحدَه لاحظ دمعةَ الحكيم فور وصول الجنرال، ومَن أمعنَ النظر اكثر ودقّق سيَشعر حتماً بالدمعة التي علقت في عينَي الجنرال وأدمعَ فعلاً عندما أعلنَ جعجع ترشيح «القوات اللبنانية» له، ليَعلو تصفيق الحضور مجدّداً، وكان الجنرال أوّلَهم؟

أمّا اللافت في كلمة الحكيم فكانت الحدّة في صوته على رغم التأثّر الذي كان بادياً على وجهه، وتقسيمه لهذه الكلمة إلى عشرة نقاط، واللافت أيضاً أنّ الجنرال كان يسارَع إلى التصفيق عند انتهاء جعجع من تلاوة كلّ نقطة على حِدة، ليبدوَا في مشهد انسجامٍ تامّ يحرقان معاً صفحات الماضي السوداء في لحظات.

كان الحكيم حاسماً… وظريفاً

الطريف أثناء تلاوة جعجع لكلمته توقّفُه عند البند المتعلق بالتزام سياسة خارجية مستقلة، ليعلّقَ وينظر نحو باسيل قائلاً: «بدّك يَعملها»، فيعلو الضحك في القاعة، بمن فيهم الجنرال الذي كان ينصِت بإمعان الى كلمة الحكيم الذي عند قراءته بنداً آخر محرجاً مازحَ عون بالقول: «شو؟»، فيجيب الأخير ضاحكاً ومؤشّراً بإصبعه نحو باسيل: «قلّو قلّو»، ليضحكَ باسيل من قلبه.

لكنّ الحكيم يَعرف متى يمزح ومتى يستعيد جدّيته بثوانٍ، وكما تجرّأ وأعلن في بداية كلمته «لقد بتنا قابَ قوسين من الهاوية ولا بدّ من عملية إنقاذ غير اعتيادية وحيث لا يجرؤ الآخرون ومهما كان ثمنها»، ختمَها بجرأة مراهناً على صِدق نوايا الجنرال وانطلاقاً من المبادئ التي جسّدتها ثورة الأرز التي ناضَل لأجلها شباب «القوات» و«التيار» والأحزاب الحرّة عندما واجَهوا معاً «الوصاية السورية».

فهل يتسلّم الجنرال الوصية ويتصرّف بها بأمانة؟ لا سيّما أنه أكّد في كلمته ضرورة الخروج من الماضي وإحراق الورقة السوداء من حقبة التاريخ المسيحي – المسيحي؟.

اللقاء التاريخي ستَحفظه معراب والتاريخ، وسيَشهد اللبنانيون عليه، فيما يترقّب الزعيمان بصمت ردّات الفعل ولا سيّما أنّهما أكّدا في كلمتيهما وأكدَت أوساطهما لـ«الجمهورية» أنّهما ماضيان في هذا الترشيح رغم كلّ التحديات.

وقد تبادلَ مناصرو «القوات» بعد انتهاء المؤتمر الصحافي الآراء في ما بينهم، بعدما لمسوا أنّ جعجع «أثبتَ أنّه الزعيم اللبناني الوحيد الذي يمكنه التفرّد بمبادرات شجاعة وغير مسبوقة، فصَدم اللبنانيين مثلما صَدمهم اعتذارُه بعد خروجه من السجن، وهو اليوم يتفرّد مجدّداً بقرار شجاع ويأخذ المبادرة ويعلن تأييدَه ترشيحَ الجنرال ليثبتَ للجميع أنّ اللامعهود يمكن توقّعه دائماً ولأنّ الأسباب التي دفعته الى زيارة الرابية هي نفسُها التي تدفعه الى إعلان ترشيح عون اليوم وليس حسب تعليق بعض المعارضين بوصفِهم الترشيحَ بأنّه «نكاية بعلي وليس محبّة بعمر».

فيما أكّدت أوساط مواكِبة من معراب أنّ «القاصي والداني يعرف أنّ جعجع فعَلها للأسباب الآتية:

1 – الخطر الوجودي والكياني الذي يتهدّد المسيحيين والذي اعتبَره جعجع أولوية في كلّ المراحل السياسية التي مرَّ بها ودفعَ ثمنَها ماضياً في السجن وحاضراً في الإقصاء عن الحكم والحكومة.

2 – لَملمة الشارع المسيحي التوّاق منذ قرابة 30 عاماً إلى الوحدة بين أكبر كتلتين مسيحيتين.

فهل يربَح المسيحيون كرسيَّ الرئاسة والوحدة المسيحية معاً؟