إستعاد رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ذكرياته الجميلة مع البطريركيّة المارونيّة، في مناسبة حزينة تمثّلت بوداع مطران الجبّة السابق فرنسيس البيسري، الذي كان صلة الوصل بين جعجع المعتقل، والبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، رجل الإستقلال الثاني.
حملت بكركي قضية جعجع طوال 11 عاماً، وتلازمت دعوتها بالإفراج عنه مع مطلبها الرئيس خروج القوّات السوريّة من لبنان. في المقابل تعتبر «القوّات» نفسها من شرايين البطريركية المارونية، خصوصاً أنّ جعجع يفاخر في كل خطاباته، بـ«أننا نحافظ على الخط التاريخي للموارنة، ونحن من مدرسة البطاركة العظماء الذين وقفوا في وجه الظلم وحاربوا الطغاة والمماليك».
العلاقة بين بكركي و«القوّات» أعمق من خلافات على بعض الملفات، وإن كانت كبيرة. وقد شهدت المراحل الماضية «سوء تفاهم» بين جعجع والراعي، لكنّ قياس بضعة أشهر خلاف، بمسيرة 1500 عام من النضال وفق معيار جعجع، تؤكّد أنّ التفاهم يسود علاقة «القوّات» ببكركي، مع الإشارة الى بعض التباينات التي تحصل بين أهل البيت، والتي لا يمكن نكرانها.
في الأمس، تخطّى جعجع كل المخاوف الأمنية، «طنّش» على التهديدات التي تلاحقه وتحرمه زيارة الأماكن التي يحبّها، من بلدته بشرّي والوادي المقدّس الى شوارع عين الرمانة والاشرفيّة، وسلك طريق معراب مروراً بسيدة لبنان حريصا، وصولاً الى الصرح البطريركي حيث الوداع الأخير للمطران الذي كان يناقشه في أروقة السجن.
مَن عرف المطران البيسري أحبّه، ومَن لم يعرفه سمع عنه، لكنّ الحقيقة الراسخة أنه رحل في زمن لا يُشبه عام 2005 لحظة خروج جعجع من السجن وعودة العماد ميشال عون من المنفى، عندها ظنَّ مع المسيحيّين جميعاً أنّ عودة قياداتهم من المنفى وخروجها من السجن ستُعيدهم للعب دورهم مع شركائهم في الوطن، وسينفضون عنهم غبار الحرب والإحتلال، لكنّ النتيجة كانت صادمة: «إنها ذيول حرب الإلغاء القبيحة التي لم نستطع تخطيها بل عادت بحلّة سياسيّة، مؤجّجة بتقاتل سنّي- شيعي لا يرحم، ولا يترك مجالاً للوسطيّة».
وبما أنّ جعجع زار بكركي، فقد إجتمع مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وبالتالي حضرت مع التعازي هموم رئاسة الجمهورية، الطبق الرئيس في كل الموائد السياسيّة، على أمل ألّا نصل الى مرحلة التعزية بالرئاسة.
اللقاء بين الرجلين كان إيجابياً، إذ يؤكد أحد أعضاء الوفد القواتي المرافق لجعجع أنّ العلاقة جيّدة جداً مع الراعي، موضحاً أنّ سبب عدم مشاركته في اللقاءات السابقة أمني بامتياز، وعدا ذلك ما هو إلّا إشاعات وأكاذيب وإصطياد في الماء العكر، «فجعجع قال للراعي منذ اليوم الاوّل إنه مستعدّ للتسوية، وصولاً الى الإتفاق على رئيس، ولم تقاطع «القوات» أيّ جلسة إنتخاب رئيس، بينما الطرف المقاطع معروف، وللأسف هو مسيحي».
في الدقائق القليلة التي تحدّثا فيها وسط مقاطعتهما من المعزين، أطلع جعجع الراعي على مسار الحوار مع العماد ميشال عون والنقاط العالقة التي يجرى العمل على حلّها، والمساعي القائمة لبلورة تفاهم حقيقي يكون أبعد من الإستحقاق الرئاسي، خصوصاً مع ما تشهده المنطقة من أحداث وحروب وتهجير للمسيحيين في العراق وسوريا، فما كان من الراعي إلّا أن بارك الحوار، داعياً الى حلحلة العقد وإستعجال إنتخاب رئيس للجمهورية.
بين التعازي والجنازة، حديث في الرئاسة، وبين بكركي ومعراب أمل برئيس قريب طال إنتظاره. وبين معراب والرابية، لا أحد يعرف ماذا يحصل فعلياً، فهل تصدق النيات، أم أنّ الفريقين يراهنان على عامل الوقت في انتظار المتغيّرات الإقليمية والدولية.
المياه تجري تحت اقدام المسيحيين في المنطقة، ودمهم يسيل، فهل ينتظر مسيحيّو لبنان أن يُقضى على أقليّة مسيحية أخرى في الشرق، أو أن تصل السكين الى رقابهم ليشعروا بالخطر ويتّفقوا على رئيس. وهل يتّعظون من الكلام الذي وجّهه أحد قادة الأشوريين إلى موارنة لبنان ومسيحيّيه، عندما قال بالحرف الواحد: «الحقّ عليكم بما يُصيبنا، لأنكم ضعفاء وندفع ثمن خلافاتكم يا مَن تَعتبرون انفسكم حرّاس الهيكل».