راهن كثيرون على أنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع يناور في ترشيحه لرئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون في معركة رئاسة الجمهورية، بل اعتبروا أنّ جعجع منذ بدء الحوار مع عون كان يناور للوصول إلى انتخاب رئيس تسوية ما دام هو لم يصل إلى الرئاسة بعدما كان مرشحاً لقوى «14 آذار». لكنّ الوقت أثبت عدم صوابية هذه النظرية مع تمسّك جعجع بترشيح عون رغم كلّ الخطط التكتيكيّة التي وُضِعَت من الحلفاء والخصوم لحمل جعجع إلى التخلّي عن ترشيحه لعون وفكّ الارتباط بينهما.
مؤشرات عديدة أظهرت تشبّث رئيس حزب «القوات اللبنانية» بعون وهي:
أولاً، خرج التقارب بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» إلى العلن بشكل رسميّ للمرة الأولى عبر إعلان النيّات الذي كشفت عنه زيارة بالغة الأهمية قام بها جعجع لعون في الرابية مغلقاً صفحة قديمة من العداء السياسي والشخصي في ذروة الاستحقاق الرئاسي الذي يفرّق بينهما، وهنا برزت النيّات الصادقة.
صحيح أنّ موضوع الرئاسة بدا شأناً ثانوياً في حوارهما، في وقت انهمكا في بناء الثقة، وحصلت مصارحة بينهما كانت بداية الاتفاق على ضرورة وصول رئيس قويّ ينبثق من بيئته ويقبل به الأفرقاء الآخرون، وبذلك كانا يتبادلان الإعتراف بأن لا أحد سواهما يمتلك هذه المواصفات.
الرجلان في المحطة الأولى اجتازا نصف حلٍّ لمشكلة بقيت تحتاج إلى النصف الآخر من الحلّ، هو أن يقبل حلفاؤهما أي «المستقبل» و»حزب الله» بدعم فوز احدهما. فيما بقيت ظنون المناورة تستولي على تفكير حلفاء وخصوم الزعيمَين المارونيَّين.
ثانياً، «ترشيحي لرئاسة الجمهورية ليس مناورة…»، هذه كلمات الرئيس الشهيد بشير الجميّل عندما أعلن ترشيحه للإنتخابات الرئاسية في لبنان عام 1982.
ومثل ترشّح الجميّل، ومن بعدها انتخابه رئيساً، أكّد سمير جعجع أنّ ترشيحه لعون في 18 كانون الثاني 2016 لم يكن مناورة، إذ يكفي أنه أخرج من الكواليس ما كان يهمس به كثيرون: هل يقوم جعجع بترشيح عون؟ ولماذا؟ فجاء الجواب من معراب ليربك الصديق قبل الخصم، كما دفع الفرقاء إلى التخلّص من رأس النعامة.
وخطوة جعجع كانت في ذروة الجرأة، لكنه وضع لها صمام الأمان من خلال البنود العشرة وهي بنود تمثّل ما بشّر به تحالف 14 آذار منذ قيامه عام 2005، تتحدث عن الدولة وأصولها، عن المؤسسات واحترامها، عن الديموقراطيّة وقواعدها، بل ذهب جعجع أبعد من ذلك عندما راح يسوّق منتجات الحلف الآذاري عن السيادة والإستقلال والخروج من منطق الوصاية السورية-الإيرانية واحتكار الدولة للسلاح بحضور عون المتحالف مع «حزب الله» أصلاً.
هكذا بدا عون مرشحاً محمَّلاً ببرنامج جعجع الانتخابي، وهذا ما ينسجم مع ما كان غالباً يردّده رئيس «القوات» أنّ المهم بنظره وصول رئيس ينفّذ برنامجه بصرف النظر عن هوية هذا الرئيس، فما الداعي إلى ممارسة فن المناورة؟
ثالثاً، رغم كلّ شيء بقي الرهان على أنّ جعجع يناور، إذ يعرف أنّ توازن القوى الداخلي كما الإقليمي والدولي الرمادي الغامض الذي يفوح في سوريا لا يشي بحظوظ أفضل لميشال عون بل اعتبر كثيرون أنّ جعجع يقوم بهذه الخطوة لإحراج «حزب الله» لا أكثر ولا أقل.
لكن ما حصل لاحقاً، يؤكّد أنّ جعجع لم يكن يناور، فـ»تفاهم معراب» أكمل طريقه رغم محاولات اغتياله في محطات عدة، بل بقي صلباً، وخاض معارك استعادة قانون الجنسيّة بنجاح، إضافة إلى شراسة الانتخابات البلدية التي شهدت طلوعاً ونزولاً في فعالية هذا التفاهم وخصوصاً في معركة جونية، لكنّ دهاء جعجع جعله يتخطّى المعوقات وجعل من بعض الهزائم «البلدية» مجرّد كبوات موضعيّة بسيطة بالمقارنة مع المكتسبات الموعودة من هذا التفاهم، واستمرت «القوات» بترشيح عون.
رابعاً، خطوة أخرى لا تقلّ أهمية عن كلّ ما حصل، تعكس صدق جعجع في دعم عون للوصول إلى رئاسة الجمهورية، تثبت أنه لا يناور، تمثّلت بسعي جعجع إلى تعزيز التقارب بين تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر»، وهو لم يوفّر جهداً لإقناع الحريري في المضي بإنتخاب عون، وخاض غمارَ الوساطة بين الطرفين بصرف النظر عما إذا كان نجح أو فشل في ذلك. والبعض لا يعرف أنّ جعجع بذل جهوداً حثيثة لدى المملكة العربية السعودية لتسويق عون رئيساً. كلّ ذلك يُبعد عنه اتهام الخصوم بأنه لا يفعل سوى المناورة.
يكون ساذجاً في السياسة مَن يظن أنّ جعجع الذي قَبِلَ بترشيح عون لن يحقق مكتسبات سياسية، وما يروّج له البعض عن أهداف جعجع بتعميق شعبيته المسيحية وتعزيز مبدأ الشراكة بين الحزبين المسيحيين الأكثر تمثيلاً لإستعادة الحقوق المسيحية والتوصّل إلى قانون للإنتخابات النيابية يجعل الحزبين في موقع قوة لحصد أكبر عدد من المقاعد النيابية مسيحياً… كلّها أهداف صحيحة وليست بعيدة من طموح جعجع، إلّا أنها أهداف مشروعة في السياسة ولا أحد يعطي مجاناً ويأخذ مجاناً، لكنّ مصلحة المسيحيين العليا والخوف على الجمهورية هما الدافعان الأساسيان لإستمرار ترشيح «القوات» لعون.
وليس مستبعداً بعدما اجتاز الحريري نصف الطريق إلى القبول بعون رئيساً ولو ضمنياً أن يلعب رئيس «القوات» دوراً فاعلاً في مساعدة الحريري لإجتياز النصف الآخر من الطريق للوصول إلى الهدف المنشود وإنقاذ الجمهورية من الفراغ.