كأن أحداً أو شيئاً دفع الحريري وجنبلاط إلى الخروج عن الصمت، في ملف الطيونة، بعد 9 أيام عاصفة، كانا خلالها جالسين في مقاعد المتفرجين. في أي حال، هما اكتفيا بالتغريد على “تويتر”، وقالا باختصار: في الطيونة، “كلن يعني كلن”، يجب استدعاؤهم. وطبعاً، جعجع واحدٌ منهم. لكن الحريري تعمَّد التبرير: نحن تقصَّدنا الصمت هذه الفترة، لأننا نرفض “لغة القنص الأمني واقتناص الفرص السياسية”. وفي هذه العبارة رسائل سياسية واضحة الإتجاهات.
ثمة مَن يقول إنّ «رفاق» جعجع في «جبهات» المعارضة يعرفون حدود اللعبة الجارية، ويدركون أنّها لن تقوده إلى الأسوأ، وأنّ الأمر سيتوقف عند المقايضة بين ملفين: المرفأ والطيونة، وينتهي كل شيء. ولذلك، لا داعي لـ»وجع الرأس» بإطلاق المواقف. ولتتدبّر المرجعيات المسيحية هذا الأمر داخل بيتها.
ad
ولكن، في الموازاة، ثمة من يقرأ صمت أركان المعارضة طويلاً بطريقة أخرى. يقول البعض: على أبواب انتخابات نيابية ستقرّر الأحجام لسنوات آتية، لا أحد مستعدّ لإحراق أصابعه من أجل الآخر. ولدى كل من جنبلاط والحريري دوافعه الخاصة في هذا الشأن.
يريد جنبلاط في العمق أن يتضامن مع جعجع من منطلق وقوفه التام إلى جانبه خلال مواجهات أيار 2008، لكنه يحاذر الوصول بموقفه إلى توتير علاقاته مع «حزب الله» وبيئته في الجبل.
طبعاً، هو أيضاً يريد الإمساك بالعصا من وسطها في ملف الانتخابات النيابية، والحفاظ على حلفه الثمين مع الرئيس نبيه بري. فمن دون هذا الحلف، يخسر الكثير من أوراق القوة والمناورة في الانتخابات وخارجها. وهو يعرف أنّ اللعبة البرلمانية سيديرها رأس واحد، حتى إشعار آخر، هو بري.
وفيما رئيس المجلس لا يبدو شريكاً قوياً لـ»حزب الله» في الحملة على جعجع، لضرورات مختلفة، وهو استقبل البطريرك بشارة الراعي أمس، فإنّ جنبلاط يتمسك بدور حليفه الشيعي للحصول على ما يكفي من تغطية شيعية، وإبقاء علاقته بـ»حزب الله» مضبوطة عند حدود «عدم الاعتداء».
ولكن، في المقابل، ينطلق الحريري من زاوية مختلفة في مقاربته لقضية جعجع. ويحاول القريبون منه أنّ يقلّلوا من أهمية صمته إزاء هذا الملف على مدى الأيام الصاخبة، ويقولون: الحريري منسحب تقريباً من اللعبة منذ اعتذاره وتسمية الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة. وتالياً، هو لم يصمت تجاه ملف جعجع تحديداً.
لكن آخرين يسألون: حتى لو كان الحريري صامتاً في السياسة، وبعيداً، ألم تستحق منه قضية خطرة إلى هذا الحدّ أن يقف مع حليفه في التموضع السياسي المبدئي، 14 آذار، فوراً؟ على الأقل من باب ردّ الجميل له، كما تعاطف جعجع معه فوراً ومطولاً يوم 7 أيار 2008؟
ألم يجد الحريري نفسه، في هذه المسألة الجوهرية تحديداً، والتي ترتدي طابعاً سياسياً وأمنياً استراتيجياً، بعيداً عن الصغائر، في موقع التحالف الاضطراري مع الحليف الآذاري، على الأقل بالموقف السياسي؟
العالمون يقولون: في العمق، يتفهم الحريري أنّ جعجع يتعرض للفخّ، وهو نفسه سبق أن عاش هذه التجربة. ولكنه لا ينطلق في مقاربة ملف الطيونة من حادثة 7 أيار 2008 بل من حادثة 4 تشرين الثاني 2017، أي من حادثة استقالته المعروفة في الرياض.
الحريري يعتبر أنّ موقف جعجع كان أساسياً في مأزقه آنذاك، إذ كان ينتقد نهجه المهادن لـ»حزب الله» بقوة وعلناً. وهذا الموقف هو الذي شجع السعوديين على القيام بخطوتهم. ولم ينسَ الحريري لجعجع هذا الموقف حتى صار تأثيره على العلاقة الثنائية أقوى من تأثير 7 أيار.
واليوم، ربما يرغب الحريري في ردّ الضربة التي تلقّاها من جعجع في العام 2017، ولكن ضمن الحدود غير القاتلة، وهو يفضّل أن يترك جعجع يقلِّع شوكه بيديه. وفي أي حال، هو يعتقد أنّ الحملة التي يتعرّض لها جعجع من قوى السلطة الحالية لن تصل إلى حدّ تكرار السيناريو الذي جرى على أيام والده الرئيس رفيق الحريري في العام 1994، خلال المرحلة السورية، لجهة تركيب الملفات وحلّ حزب «القوات». ولذلك، هو لم يرَ داعياً لأن يُحرِق أصابعه في الملف.
إزاء هذا الواقع داخل معسكر 14 آذار (السابق)، لا يجد «حزب الله» أي عناء في المواجهة الداخلية، خصوصاً أنّ شرائح المجتمع المدني وثورة 17 تشرين الأول 2019 تتنصَّل تماماً، هي أيضاً، من كل الأحزاب القائمة، وتتمسك بشعار «كلن يعني كلن». وتالياً هي لن تتعاطف مع جعجع ما دامت تعتبره جزءاً من المنظومة، وترى أنّ ما يجري معه يشكّل صراعاً بين أركان المنظومة إيّاها، وستحلّه على طريقتها.
وأساساً، كان أحد «أعطال» ثورة 17 تشرين هو أنّها تجاهلت تماماً موقفها من سلاح «حزب الله»، لأنّ مكوناتها وشرائحها ليست متوافقه على هذه المسألة. وفضّل الجميع تأجيل اتخاذ موقف من هذه المسألة، لعلّ حلها يأتي تلقائياً مع تقدّم الوقت والحلول، علماً أنّ «الحزب» تصادم مراراً مع جماعات الحراك في وسط العاصمة والمناطق المحاذية لـ»خطوط التماس» معه، وكان هذا التصادم جزءاً من عملية سقوط «الثورة».
إذاً، أظهرت حادثة الطيونة أنّ قوى الاعتراض التي نشأت منذ انتفاضة العام 2005 حتى ثورة 2019، أي قوى 14 آذار وقوى 17 تشرين، كلها في وضعية موت سريري، وأنّها لا تقوى حتى على إصدار بيانات التضامن المتأخّرة جداً، ولضرورات ومبرّرات متباينة، ولذلك، ليست هناك حالة مواجهة فعلية لـ»حزب الله» في لبنان.
وهذا الواقع يلائم تماماً تكتيك «حزب الله» القاضي باستفراد كلٍّ من مكوّنات المعارضة، على حِدَة. وهذا الأمر ستكون له انعكاساته على الواقع السياسي في المرحلة المقبلة.
لقد شهد الجميع في الأيام الأخيرة على إصدار «وثيقة وفاة» جديدة لـ14 آذار. وبعد اليوم، سيكون مناسباً عدم إقامة احتفال بالذكرى، أو حتى بذكرى 17 تشرين. فقط إقامة الجناز يناسب.