يتلاعب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بجمهور التيار الوطني الحر، من دون حسيب أو رقيب أو ردّ عونيّ أو توضيح، مكثفاً محاولاته لزرع الشك في قلوب العونيين وعقولهم بحزب الله الذي لا يزال شغله الشاغل. رئيس القوات يستفيد من انشغال القوى السياسية، يتقدمها التيار، بهمومها الخاصة ليركز على شيء واحد: دق الإسفين بين الرأي العام العوني وحزب الله
حتى أشهر قليلة ماضية، لم يكن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يجد ما يملأ وقته به غير قطف الزهور في حدائق قصره. فجأة، قرر رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون منحه صك براءة من كلِّ الاتهامات العونية له بالإجرام والتبعية لتيار المستقبل والغدر بالقانون الأرثوذكسيّ وغيره. فتحت الآفاق المقفلة في وجهه.
وبات في وسعه الخروج من المساحة المخصصة لقواته نحو جمهور جديد كاد يقطع أمله منه. ولا شك أن جعجع نفسه كان يعتقد أن مصالحته مع الجمهور العوني وبناء الثقة معه سيكونان أصعب وأكثر تعقيداً مما كانا في الواقع. فهو اكتشف أن العونيين يخاصمون في لحظة ويصالحون في لحظة أيضاً. واكتشف أن الموقف من التكفيريين والمقاومة والدين العام والفساد وغيرها شيء، والموقف من ترشيح العماد عون إلى رئاسة الجمهورية شيء آخر.
بعض المحيطين بعون لم يقطعوا مع ماضيهم البشيريّ وينتَشون من التحالف مع جعجع
فهو قادر على أن يختلف مع العونيين في كل التفاصيل المهمة ويلتقي معهم على ترشيح العماد عون، فيقبلونه ويتقبلونه ويحبونه وأكثر، فيما بإمكان فرنجية أو أي طرف آخر أن يلتقي معهم حول كل التفاصيل ويعارض ترشيح العماد عون فيخاصمونه و»يكفّرونه». وبموازاة سروره طبعاً بتحوله إلى محبوب الجماهير العونية، كان واضحاً أن البيئة الحاضنة لجعجع في الرابية، التي تعتبر التحالف مع القوات وجودياً بالنسبة إلى المسيحيين لا شيء آخر، كبيرة جداً. فالأمر يتجاوز ما حاول النائب ابراهيم كنعان ومسؤول جهاز التواصل في القوات ملحم رياشي اختزاله بشخصيهما: في تكتل التغيير والإصلاح، يمكن الحديث من دون حرج: النائب فريد الخازن بقي مرشح القوات اللبنانية إلى الانتخابات عام 2005 حتى أتاه اتصال من الرابية أقنعه بتغيير صفته من مرشح القوات إلى مرشح التيار وسيفوز بالنيابة. النائب نعمة الله أبي نصر هو نفسه ذلك المرشح إلى الانتخابات الذي دأب على الصراخ على المنابر «لا يمكن ابن بشري أن يفجر كنيسة». النائب آلان عون قال في تصريح أمس إن المصالحة مع القوات «أكبر إنجاز نورثه للأجيال». النائبة جيلبرت زوين لا تعلم أساساً إن كانت في كتلة العونيين أو القوات ولا يعنيها الأمر طالما هي نائبة، حالها من حال يوسف الخليل. عضو «لقاء السبت» إيلي الفرزلي أعاد صياغة عبارته على نحو يوحي بأن «العروبة» أو «الفلسطينيين» كانوا السبب في إصابته خلال الحرب لا سمير جعجع من خلال تكراره القول «لم يبذل أحد مقدار ما بذلته من أجل العروبة وفلسطين». وتكر سبحة المثقفين العونيين الذين أيدوا الجنرال، لكنهم لم يقطعوا مع ماضيهم البشيريّ ويَنتَشون اليوم من رؤية العونيين والقوات جنباً إلى جنب، علماً بأن هناك في التيار مشاريع نواب كانوا ولا يزالون على يمين جعجع في ما خص إسرائيل ماضياً وحاضراً والمقاومة وغيرها، لكنهم آثروا التظاهر بالعونية ظناً منهم أنها تختصر طريقهم إلى النيابة وتخفف من تدقيق حزب الله في مآربهم.
وعليه، وجد جعجع في الرابية بنية تحتية جاهزة تنتظره. فبات بإمكانه الانتقال بسرعة من المرحلة الأولى المرتبطة بكسب ثقة العونيين إلى المرحلة الثانية المتعلقة بتحريضهم على حزب الله. فخلال الأشهر القليلة الماضية، انشغل رئيس حزب القوات اللبنانية بالتعبير عن «اجتهاده» لإيصال العماد عون إلى بعبدا، وترداد لازمة أن حزب الله لا يحرّك ساكناً. ولم يصدر طبعاً أي رد عوني يوضح الأمور، ويذكّر الرأي العام بأن حزب الله إنما يقاطع جلسات انتخاب الرئيس بناء على طلب التيار الوطني الحر لا شيء آخر، إضافة إلى أن ذهاب حزب الله وحركة أمل إلى المجلس لانتخاب الرئيس لا يمكن أن يؤدي إلى انتخاب العماد عون رئيساً. فالنظام اللبناني يمنح لممثلي الطوائف الكبرى حق الفيتو. والبطاقة الحمراء في وجه عون بيد تيار المستقبل، ومن خلفه السعودية. بعض المراهقين السياسيين العونيين من نواب وغير نواب يقولون ــ من دون علم الجنرال طبعاً ــ إن ترشيح حزب الله للجنرال أضر به عند السعوديين أكثر مما نفعه محلياً. وهو ما يتناغم مع التعبئة القواتية التي تريد إقناع الجمهور العونيّ بأن حزب الله لا يدعم ترشيح الجنرال جدياً، ولو أراد إيصاله لأوصله طبعاً، علماً بأن المحطات السياسية المحلية التي أثبت فيها الحزب عجزه كثيرة جداً، تتعلق بقضايا أصغر بكثير من رئاسة الجمهورية. فهو عجز مثلاً عن إيقاف عجلات المحكمة الدولية، وعجز عن إنهاء الاحتجاز التعسفي للضباط الأربعة، وعجز عن فكفكة فرع المعلومات رغم كل ما حاكه ضده، وعجز عن إلزام الرئيس نجيب ميقاتي بتغيير المدير العام لأوجيرو عبد المنعم يوسف حين كانت الحكومة توصف بحكومته، وعجز عن فرض النسبية كنظام انتخابيّ، وعجز عن إلزام الجيش بتنظيف جرود عرسال وعجز ــ كتفصيل صغير ـــ عن منع تركيب الكاميرات في بيروت وإيقاف بث فضائيات التحريض المذهبيّ في لبنان، وحين أوقِفَت شاحنة أسلحة له عام 2007 عجز عن إخراج سائقها، رغم كل ما يشاع عن نفوذه في المحكمة العسكرية حتى قضى محكوميته الطويلة كاملة، وغيرها الكثير الكثير.
يقول العماد عون إن الحزب يعرف أين يستخدم قوته وحدود استخدامه لهذه القوة
فالحزب ــ كما يقول العماد عون لزواره ــ يعرف أين يستخدم قوته وحدود استخدامه لهذه القوة، وثبت خلال السنوات العشر الماضية أنه لا يظهرها في الداخل ما لم تمسّ منظومته الأمنية مباشرة كما حصل في 5 أيار 2008.
لكن جعجع لا يبالي بما سبق. فهمّه زرع الشك برؤوس العونيين مستفيداً من غياب التوضيح العونيّ الرسمي وتناغم جزء من المحيطين بالجنرال معه، وهو انتقل إلى مرحلة متقدمة من محاولات زرع الشقاق بين الحزب والتيار عبر استغلال التباين بينهما بشأن التمديد لقائد الجيش، محرّضاً العونيين على حزب الله أكثر فأكثر. وبعد مجموعة تسريبات قواتية ذكية توحي بتذمر العونيين من حزب الله، عبّر الموقع الإلكتروني للقوات اللبنانية عن استغرابه لعدم تضامن الحزب مع التيار في مقاطعة الجلسة الحكومية و»تركه وحيداً يقلع شوكه بيده». وأشار المقال الذي حمل عنوان «حزب الله يترك عون وحيداً» إلى أن «المأخذ الأساس للتيار يجب أن يكون على الحزب قبل أي مكون آخر». وذكّر موقع القوات بأن موقف حزب الله «لا يختلف في جوهره عن دعم الحزب الشكلي رئاسياً للعماد عون، حيث لم يجر أي محاولة جدية لإقناع مكونات ٨ آذار بالسير في هذا الخيار»، علماً بأن جميع مكونات 8 آذار بمن فيهم المرشح الرئاسي النائب سليمان فرنجية تبنوا ترشيح العماد ميشال عون ودعموه، وقاطعوا جلسات انتخاب الرئيس بطلب منه، وينتظرون من جعجع تغيير موقف حلفائه للذهاب إلى المجلس وانتخاب عون رئيساً. والمشكلة الرئيسية هنا تكمن في قدرة جعجع اليوم أكثر من أي وقت سابق على التلاعب بعقول العونيين والتأثير بهم، في ظل صمت القيادة العونية وعدم ردها عليه وتوضيحها للأمور. فالنظرة العونية الشعبية إلى جعجع اليوم لم تعد كما كانت قبل بضعة أشهر، وهناك مجموعة مسؤولين عونيين أو أصدقاء نافذين للعونيين يلاقون جعجع في منتصف الطريق. ولا شك أن فعالية جعجع في التحريض على حزب الله ازدادت منذ تفاهمه مع التيار الوطني الحر، وهو ما ظهر في استطلاع للرأي طلبت السفارة الأميركية من أحد المراكز الإحصائية إجراءه أخيراً. والخلاصة تفيد بأن ترك الأبواب العونية مشرعة أمام جعجع كما يحصل اليوم خطير، فليس بإمكان النواب العونيين الاستمرار في استعراض ابتساماتهم الصفراء حين يُسألون عن الأمر، وليس بإمكان وسائل الإعلام العونية مساواة موقف أفرقاء في قوى 8 آذار تعلن عن استعدادها للذهاب إلى مجلس النواب حين يطلب منها العماد عون ذلك، وموقف تيار المستقبل الذي يجاهر برفضه انتخاب عون رئيساً، والأهم من هذا كله لا يمكن تنحية الملفات الخلافية الكثيرة، سواء مع جعجع أو غيره جانباً طالما أن هناك اتفاقاً بشأن الرئاسة الأولى. فالمناعة العونية قوية وعلاقة جمهورَي التيار وحزب الله مستقرة. إلا أن محاولات جعجع المستجدة لاختراقهما وخلخلة العلاقة خطيرة، وهي تحظى بغطاء ومشاركة من بعض العونيين. ومهما كان حجم الثقة، لا شكّ أن إلحاح جعجع سيؤثر في «لاوعي» العونيين ويزرع شكاً صغيراً يكبر مع الوقت.