غالباً ما كانت قرارات رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع تلحق الكوارث بحزبه. الا أن مؤيديه يقنعون أنفسهم بأن قرار ترشيح النائب ميشال عون رئيساً للجمهورية وانتخابه لا يقع في هذه الخانة. ويرون أن عون مرشحهم لا مرشح التيار الوطني الحر أو حزب الله، وربحهم من انتخابه أكبر من ربحهما مجتمعين
بين مؤتمر صحافي وآخر، أجرى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع مقابلة صحافية في اليومين الماضيين. لم يوفّر حزب القوات جهداً للقول إنه شريك في صناعة الانتصار العوني إلا استخدمه: مواكب شعبية ومواقف سياسية ومزايدات وأعلام وغيرها.
وفي معمعة المزايدات، كاد مستشار رئيس الحزب للشؤون السياسية، وهبي قاطيشا، يطل ليروي فصولاً من مسيرته العسكرية المفعمة بالفخر والاعتزاز جنباً إلى جنب مع العماد ميشال عون. فمن يدأبون على كذب الكذبة وتصديقها أقنعوا أنفسهم بأن عون ليس مرشح حزب الله، بل مرشح القوات اللبنانية التي حققت انتصاراً كبيراً بإسقاطها مخطط حزب الله لإبقاء البلد من دون رئيس وإنهاء الطائف.
لكن، بمعزل عن المزايدات، لا شك في أن تموضع القوات خلف عون في هذه المعركة الرئاسية، أياً كانت أسبابه، واضطرار رئيس تيار المستقبل سعد الحريري إلى الالتحاق بالخيار الجعجعيّ رغم انتقاده بشدة بداية، يدفعان باتجاه القول إن القوات شريكة في صناعة الانتصار العونيّ، ويحق لها الاحتفال بإبعاد كأس فرنجية المرة بعد تلاقيها مع حزب الله في آخر الطريق لتأمين أرضية صلبة يستحيل زحزحة العماد عون عنها. إلا أن الأهم هنا هو إبقاء حجم المساهمة القواتية عند حدودها الحقيقية من دون مبالغات؛ فرضوخ جعجع للأمر الواقع العونيّ واستسلامه سريعاً في لعبة «عضّ الأصابع» كانا مهمّين طبعاً، إلا أنه مجرد دور ثانوي مقارنة بالانعطافة الحريرية وصلابة حزب الله في الوقوف خلف الجنرال ورفضه البحث في أيّ تسويات.
اليوم، تتحدث مصادر التيار الوطني الحر بثقة عن الحفاظ على حرارة العلاقة مع القوات، بمعزل عن علاقة التيار بكل من حزب الله وتيار المستقبل، علماً بأن علاقة العونيين باتت وطيدة بهذه المكوّنات الثلاثة وغيرها، فيما علاقة القوات المميزة تكاد تنحصر بالعونيين. ولا شك في أن الإجابة عن مستقبل العلاقة بين التيار والقوات تفترض أن تسبقها إجابات عن مستقبل العلاقة بين العونيين والمستقبل. فكل ما يشاع عن اتفاق على توزيع الحقائب الوزارية بين العونيين والقوات هو كذب بحسب مصادر التيار الموثوقة. وكل ما يشاع عن اتفاق بين جبران باسيل ونادر الحريري على اكتفاء الحريري بالتمثيل السنّي مقابل تصرّف العونيين بالتمثيل المسيحي هو أيضاً مجرد شائعات. فتخلّي الحريري عن تمثيله المسيحي يعني تخلّيه طواعية عن نحو نصف كتلته النيابية وجيش من المحافظين والقائمقامين والمديرين العامين والموظفين، وهو تنازل كبير جداً وصعب ويؤثر مباشرة على تمثيل المستقبل السياسي. ومن يتحدث عنه كأمر واقع لا يعرف من دون شك ماهيته وتأثيره على التوازنات المحلية.
التيار يحالف حزب الله والقوات والمستقبل اليوم فيما هو الحليف الوحيد للقوات اللبنانية
وعليه، فإن تمسّك الحريري بتمثيله النيابي والوزاري المسيحي للحفاظ على بعض التوازن، يعني حفاظ العونيين على حجمهم الحالي، مع ما يستتبع ذلك من حفاظ القوات اللبنانية على تمثيلها النيابي والوزاري المتواضع الحالي. وهذا يعني مشكلة كبيرة بالنسبة إلى معراب. وهنا، في حال رفض الحريري، كما هو متوقع، شنق نفسه بنفسه، على التيار الوطني الحر أن يقرر إن كان ينوي الاستمرار في ما كان يصفه بـ»معركة تحرير المقاعد المسيحية» من الوصاية الحريرية أو مسايرة الحريريين. في حال المسايرة، سيكون تفاهم كنعان – رياشي الخاسر الأكبر، أما في حال العكس فستتوطد علاقة العونيين والقوات لطيّ صفحة 25 عاماً من هيمنة البيوتات السياسية على المقاعد النيابية والوزارية المسيحية بسبب إبعاد عون وجعجع. ومن غير الواضح بعد إن كان الحريري ينوي التعامل مع جعجع بحقد، بعيد الخضّات الكثيرة التي كان آخرها تصدّي جعجع العنيف لمبادرة الحريري الرئاسية الأولى (ترشيح النائب سليمان فرنجية)، ولسعي رئيس المستقبل إلى ترشيح عون قبل ذلك عام 2014، أو أنه سـ»يكبّر قلبه». ومن غير الواضح أيضاً إن كان عون والحريري وجعجع قادرين على التوصل إلى تفاهم كبير يضمن تمثيلاً عادلاً للجميع، وخصوصاً من يملكون تمثيلاً شعبياً وازناً في مناطقهم، أم أنهم سيتعثرون بالتفاصيل.
المهم، وما هو واضح عملياً، هو خروج جعجع لأول مرة ربما منتصراً في تموضعه السياسي. فهو اعتاد الوقوف منذ نعومة أظافره مع الخاسرين، كما اعتاد تدفيع مجتمعه ثمناً باهظاً لخياراته العسكرية والمدنية. أما اليوم فصحّت قراءته للتطورات السياسية، وفهم باكراً حتمية السير الحريريّ بعون رئيساً، فاتخذ القرار الصائب بدل تزنير نفسه والهجوم هاتفاً «عليّ وعلى أعدائي»، كما اعتاد أن يفعل. ومقارنة جعجع بكل من رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل ورئيس المردة النائب سليمان فرنجية، والنواب بطرس حرب وفريد مكاري وروبير غانم وغيرهم، تبين أن وضعه مع العهد سيكون أفضل بكثير من هؤلاء. لكن هذا لا يعني أبداً أن بوسع معراب الاطمئنان إلى استقرار العلاقة مع العونيين. فمسار التفاهم بين الرابية ومعراب كان أطول وأصعب من مسار التفاهم السريع بين عون والحريري، ولا شك في أن الفريقين حققا مكسباً كبيراً جداً؛ العونيون بوصولهم إلى بعبدا والقوات بتصالحهم مع مجتمعهم وظهورهم بمظهر المؤيد لما يصفونه بالمصلحة المسيحية العليا على حساب كل شيء آخر. لكن تيار المستقبل سيلعب دوراً كبيراً في تقاربهما أكثر أو تفريقهما مجدداً، وكذلك أولويات العونيين في ظل التضارب الكبير بين الشعارات التعبوية عن تصحيح التمثيل المسيحي مع القوات اللبنانية وتقاسم السلطة مع تيار المستقبل والالتزام السياسي مع حزب الله. والأكيد ختاماً أن موقفي الوزير جبران باسيل، في مهرجان التيار وبعيد اجتماع تكتل التغيير والإصلاح، يؤكد أن بوصلة التيار السياسية أثبت مما كان يتخيل كثيرون. ومن سمع ثناء العونيين على موقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله طوال يومي البث المباشر على إذاعة صوت المدى، عرف أن الرأي العام العوني يعلم الصغيرة والكبيرة ولا ينخدع بالكذب الإعلامي، علماً بأن العهد الرئاسي العوني يفترض أن يشهد انطلاقة العميد المتقاعد شامل روكز السياسية، وهي من دون شك ضربة موجعة للقوات اللبنانية على المدى البعيد.