لم يكن الصعود إلى معراب هذه السنة بالأمر السهل، ليس بسبب تقاعس في التنظيم، خصوصاً أنّ «القوات اللبنانية» قد أثبّتت على مَرّ السنين قدرةً تنظيميّة محترفة يَشهد لها الحليف والخَصم، بل لأنّ الحماسة البالغة التي ولّدتها التظاهرات في الشارع شكّلت دافعاً إضافياً لتوافدِ الشباب المتحمّس والإصرار على إثبات الوجود في معراب للقول «نحن هنا أيضاً»… رقماً صعباً «لا ننعس دائماً حرّاس».
غصّت الطرُق المؤدية من حريصا إلى معراب بزحمة سيارات ضاقت بها المسافات والوقت، فلم تستطع كلّ الوفود بلوغ مقر «القوات» في الوقت المحدّد للمشاركة في الذبيحة الإلهية عن نفس شهداء المقاومة اللبنانية.
يرتفع وسط الزحمة ضجيج «مُحرّك» سيارة السيّدة شليطا، القديمة الطراز، لكنّها لم تُبالِ بتعليقات المارّة المنزعجة، وبضحكة عريضة تقول من نافذة سيارتها: «أصطَحِب أولادي الخمسة كلَّ سنّة للمشاركة في القداس».
السيّدة شليطا من بلدة بقاع كفرا وقد استشهد أخواها مع «القوات»، أمّا أولادها الذين لم تسَعهم السيارة بعدما أصبحوا شباباً يتباهون بالصعود مع والدتهم كلّ عام للمشاركة في القدّاس على نيّة «خاليهما».
«لماذا تصعدين إلى معراب؟»، تجيب بتأثّر: «نِحنا منعرِف إنّو درب السما طلوع»، هيك قَلّنا القدّيس شربل. كرمال هيك ما نزلنا على الشارع، نحنا «طلِعنا» على معراب».
وتضيف: «يَلّي نازل مضطرّ تضَلّ إجرو على فراماتو ما بتعرفي أيمتا بيزَحّط، بس الطالع بدّو يضل كابس بنزين وما لازم يشيل إجرو أحسَن ما يوقع بالهاوية…هكذا فعلَ شهداؤنا وأكملوا صعوداً ولم يتعبوا ولم ينعسوا، وقد كلّفَتهم يقظتهم الشهادة. هم الحرّاس الأوائل، كانوا وسيبقون لـ»القوات» وللبنان حرّاساً».
على رغم تأخّرِنا في الوصول، لفتَتنا سجّادة بيضاء شكّلت لافتة كبيرة خُطَّت عليها أسماء جميع شهداء المقاومة اللبنانية، بالإضافة إلى حضور منظّم لكشافة الحرّية وحمَلة الأكاليل، فيما أدّت الأعلام الحمراء والبيضاء المرفرفة بكثافة في سماء معراب التحيّة الأجلّ لشهداء المقاومة اللبنانية، وجسّدَت اللوحة الفنّية لخلفية المذبح، وهي عبارة عن مجسّم لكنيسة قديمة، القدرةَ التنظيمية والرؤيةَ الرائدة في الحفاظ على مبدأ القداسة.
ككلّ عام غَصّت الساحة بالسياسيين والإعلاميين، فيما كان الجديد هذا العام التمثيل السياسي لـ«التيار الوطني الحر» بشخص النائب نعمة الله أبي نصر.
وبعد تلاوة الإنجيل ألقى الأب الياس عنداري ممثّلاً البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كلمةً مطوّلة معمَّقة تميّزَت بدراسة للفِكر الماروني على مرّ التاريخ، وخصوصاً بعد إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. واعتبَر أنّ الله لم يعطِ المسيحيين روحَ الخوف بل روح القوّة، لكنّه ربَط القوّة من المفهوم المسيحي بميزتين أساسيتين «المحبّة والفطنة».
ولفتَ إلى أنّ «إعلان دولة لبنان الكبير حدثٌ أكّدَ في التاريخ انتصارَ المشروع التاريخي للموارنة حول لبنان، وأنّ التمسّكَ بالمشروع الماروني هو المدخل لتمثيل الموارنة في لبنان والعالم»، مشَدّداً على أنّ «سمير جعجع بقيَ في خطّ القيادة التاريخية للموارنة ولم يهبط إلى خط الزعامة المارونية».
جعجع: عند الخطر حرّاس وقوات
على وقع هتافات الشباب اعتلى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع المنبر، مجاهراً وليس متأنّياً، ثائراً وليس مهادناً. وأعلن بثبات ديمومة لبنان بالقول: «إنّ لبنان لم ولن ينتهي، وقد مرّت وِصايات كثيرة واحتلال ونفايات، ومهما تكدّس وكثرَ السماسرة واستشرى الفساد، لن نعرفَ اليأسَ وسنبقى حرّاس حلم الناس ولن ينعسوا الحراس».
الجديد واللافت في خطاب «الحكيم»، بالإضافة إلى إعلانه الحربَ على الفساد، إعلانُه الثورة على الفاسدين من الخصوم والحلفاء على حدٍّ سواء. فهو لم يتردّد في تحذير فريقَي «14 و8 آذار» من أنّ «القوات» لن تساير أحداً حتى حلفاءَها، لأنّ الفساد أصبحَ شاملاً.
وقال: «حين يكون هناك سياسيون فاسدون يصبح الجميع يسايرون الجميعَ بالفساد»، وحين يتّفق أشخاص من «8 آذار» وأشخاص من «14 آذار» على تقاسم المغانم في معزل عن الطروحات السياسية، يشترك الاثنان في ترويج الفساد.
ورفضَ جعجع القبولَ بهذا الواقع، معلِناً «ثورة جمهورية كاملة على كلّ شيء اسمُه فساد»، مفتخِراً بأنّ «القوات وعلى مرّ التاريخ رفضَت المشاركة في سلطة فاسدة وطنياً وسيادياً وأخلاقياً، ودفعَت طوعاً ثمنَ الرفض اضهاداً وقمعاً وسجناً».
الحوار
التصفيق علا بحدّة عند إعلان جعجع رفضَه الحوار، ليعلّق الحاضرون بأنّ «الحكيم» يُثبت مجدّداً أنّه متصالح مع ذاته، وهو على حّد قول السيّد الياس الآتي من الشوف بعدما فَقد ولديه في حرب الجبل «لا يتزَحزح ولا يهادن، ثابت في موقفه».
لكنّ جعجع اشترط للموافقة على المشاركة في الحوار أن يقتصرَ على رئاسة الجمهورية وأن يحضرَ «حزب الله» إلى المجلس النيابي في 30 أيلول الجاري لانتخاب رئيس جمهورية. وتوَجّه إلى المتحاورين المفترَضين: «مرتا مرتا تهتمّين بأمور كثيرة فيما المطلوب رئيس للجمهورية»، مبارِكاً لهم بحوار الطرشان.
وأكّد جعجع أنّ محاولات التخويف المقنّعة ولَّت أيّامُها، ومن يعتقد أنّ الرئيس ميشال سليمان كان آخرَ رئيس للجمهورية اللبنانية فهو لا يفهَم لا في السياسة ولا في التاريخ ولا في الجغرافيا.
«الشهداء لو حكوا»
ورأى جعجع أنّه لو حكى الشهداء، لكانوا قالوا «لم نقدّم أرواحَنا فداءً عن هذا الشعب حتى يقدّم صحّتَه وحياته فدية لأصحاب النفقات والسمسرات، بل ليبقى أبيض كالثلج… لم نقضِ الليالي حرّاساً ساهرين ومتيقّظين إلّا ليبقى شعبنا هانئاً آمناً مطمئنّاً».
وقفَ الجميع والتهبَت الأكفّ وعَلت الأعلام وهلّل بها أهل الشهداء فرَحاً عندما حذَّرَ جعجع الطامعين الذين يتهدّدون «القوات» بالقول: «لا يخيفنا أحد من المخاطر، ونحن عند الخطر حرّاس وقوات». وأضاف: «لا يتنطّح البعض بالمزايدة لحمايتنا، فالجيش اللبناني حامينا، وحين يتقاعَس الجيش نعلم كيف نحمي أنفسَنا. فنحن ساهرون ويقِظون وسنبقى حرّاساً وعند الخطر قوات».
وختمَ بالقول: «لقد كنّا حيث لم يجرؤ الآخرون وأنتم رفاقنا الأحياء على خطانا سائرون. حرّاس ساهرون لا ينعسون، دائماً متأهّبون، حيث لم ولا ولن يجرؤ الآخرون».
أمّا المفاجأة الفنّية فقد تمثّلَت برسمٍ حيّ للنحّات والفنّان رودي رحمة جسَّدَ آلامَ يسوع المسيح والشهداء الذين زرَعوا الارض صلباناً وخَتموا الكون بختمهم «قوات لبنانية».
وأحبّ خطاب الحكيم
في طريق العودة، تعَكّزَت السيّدة «حاج» الآتية من جزين على علم «القوات»، وهي تقول لـ«الجمهورية» إنّ غالبية أبناء قريتها يشاركون في هذا القداس، إذ إنّ للقرية ولعائلتها عشرة شهداء، 5 من عائلتها و5 من عائلة بولس ونمور. وقد أبدَت سرورَها بخطاب «الحكيم» وبإصراره على المطالبة برئيس للجمهورية وثورته على الفساد.
أمّا طوني الحاج فقد لحق بنا مستفسراً إذا كنّا صحافيين، ولمّا أكدنا له ذلك، أصَرّ على إيصال رسالته: «أخواي من أحلى شباب جزين واستشهدا في حرب الإلغاء. وأنا أواظب على حضور القدّاس كلّ عام، ولا أرتاح إلّا عندما أتحدّث معهما من خلال قدّاس الشهداء. فأنا أناجيهما وأسمعهما وأشعر بأنّ صوتَ الحارس الأوّل يطربهما وهتافَ الشباب وخفقَ الرايات يُثلج قلوبَهما». وأكّد أنّ ورقة إعلان النوايا «لا تَستفزّني ولا أعتبرها تنازلاً»، لافتاً إلى «أنّنا نَعلم منذ البَدء إلى أين نريد الوصول، والمهمّ أن يعرفوا هُم ماذا يريدون وإلى أين يريدون الوصول».
إلا أن المشاركين وأهالي الشهداء سيصلون بالتأكيد في ساعة متأخّرة إلى منازلهم مساء الخامس من أيلول، لكنّهم وفق تعبيرهم سينامون بسلام بعدما تيَقّنوا أنّ شهداءَهم كانوا في حياتهم وسيبقون في شهاداتهم حرّاساً للجمهورية، وبعدما أطمأنوا أنّ الحرّاس الأحياء لم ينعسوا، وهم على الوعد باقون، وسيَحرسون بصمتٍ ويقظة وفطنة «الجمهورية… ورئاستَها».