رئيس «القوات» ينتزع عفواً طال انتظاره
جعجع يستعيد «توازن الردع» مع الحريري
برغم أن دعم رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع لترشيح العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية لن يكون كافيا وحده، من أجل إيصال الجنرال الى قصر بعبدا، إلا أن الاستدارة القواتية ستبقى في المدى القريب مادة للاجتهاد والتأويل، بالنظر الى دلالاتها، ليس فقط على مستوى الاستحقاق الرئاسي، وإنما قبل ذلك وبعده، على مستوى علاقة «القوات» بـ «التيار الوطني الحر» في البيئة المسيحية، وعلاقتها بـ «تيار المستقبل» في البيئة الإسلامية.
وإذا كان من الصعب سبر أغوار النيات الحقيقية الكامنة خلف قرار جعجع برفع شعار «عون حتماً»، وهو الذي يتقن فن إخفاء ما يضمره أو تمويهه، إلا ان الأكيد أن أرباحه الصافية والمباشرة تفوق، وفق ميزانه، حجم الخسائر، وإن كان هناك من يعتبر أن الأضرار التي لحقت بمكانة رئيس «القوات» في السعودية تحديداً هي من النوع الذي يصعب تعويضه.
أما داخلياً، فمن الممكن القول إن جعجع ربح بالملموس وعلى الفور «وحدات مسيحية» جديدة أضيفت الى رصيد «هاتفه السياسي» بمجرد انعقاد قمة معراب، في حين أن عون ربح إمكانية انتخابه رئيساً للجمهورية وهو مكسب يبقى غير مكتمل في انتظار ملاقاته من قبل الآخرين.
حتى ما قبل «إعلان النيات» كان جعجع يحاول، بكل الوسائل والتكتيكات، اختراق ولو جزءاً من قاعدة «التيار الحر» واستمالته نحو «القوات»، أو على الأقل تحييده ودفعه الى التململ من خيارات عون وسياساته، وهي محاولة لم تنجح في معظم الأحيان بعدما أثبت الجنرال طيلة السنوات الماضية قدرته على استقطاب جمهوره لخياراته الجديدة، من دون حدوث «تسرب» مقلق أو واسع النطاق الى خارج التيار.
الآن، وبعد احتضان ترشيح عون، يبدو جعجع وكأنه تمكن من اختراق كل القاعدة البرتقالية دفعة واحدة، مدغدغاً وجدانها وعواطفها، بحيث تمكن من تعطيل عدائها التاريخي له، واستطاع فتح كوة في الجدار الاسمنتي الذي كان يفصلها عنه، وهي كوة قد تكون قابلة للاتساع في المستقبل الذي يتطلع اليه جعجع، ويراهن عليه.
بهذا المعنى، يمكن الافتراض أن جعجع انتزع، عبر التفاهم مع عون، نوعاً من «العفو المسيحي» الذي قد يفوق في أهميته «العفو السياسي» الممنوح له بموجب القانون الصادر عن مجلس النواب عام 2005.
ولعل من بين العوامل التي ساهمت في تشجيع جعجع على انعطافته الحادة، التقاطه مؤخرا ميل المزاج المسيحي العام نحو التعاطف مع طروحات عون وتموضعه السياسي، في ظل تصاعد خطر التطرف التكفيري الذي يهدد المسيحيين على امتداد المنطقة وصولا الى لبنان، وهو ما دفع اللبنانيين منهم الى إعادة ترتيب أولوياتهم وفق المعطى المستجد، حتى على مستوى القاعدة القواتية التي تحسست هذا الخطر، خصوصا في مناطق الأطراف، على الرغم من سعي جعجع أحيانا الى التخفيف من وطأته.
ثم طفح كيل جعجع مع شعوره بأن الرئيس سعد الحريري ذهب بعيدا في احتكار قرار «14 آذار»، واختزال حلفائه الى حد «تذويبهم» كأنهم «شمع سياسي»، وإسقاطهم من حساباته، كما حصل من خلال التفرد بترشيح النائب سليمان فرنجية والسعي الى فرض هذا الخيار على الشركاء المفترضين كأمر واقع.. ومرّ واقع.
ولئن كان جعجع قد سعى في الظاهر الى منع تفاقم الخلاف مع الحريري في اتجاه القطيعة، إلا ان العارفين بطبيعته يؤكدون أن ما فعله حليفه الافتراضي حفر عميقاً في معراب، وان رئيس «القوات» صمم – منذ قرار الحريري بترشيح فرنجية خلف ظهره – على الثأر السياسي ورد الصاع صاعين، في سياق إعادة تثبيت توازن الردع مع زعيم «المستقبل»، وان بدا حريصا في الوقت ذاته على عدم حصر دعمه لترشيح عون في إطار رد الفعل.
والأرجح ان جعجع يدرك أن «المستقبل» لن يستطيع برغم كل شيء التخلي عنه لحاجته الى الغطاء المسيحي الذي يشكل ضرورة له في لعبة التوازنات الداخلية، وبالتالي لمعرفته انه لا بديل من رئيس «القوات» مسيحياً، في الوقت الحالي، ما يفيد جعجع في توسيع هامش حركته وخياراته، من دون أن يخشى كثيرا العواقب المحلية.