حين كان يُسأل «الحريريون» عن اللغز الذي يخفيه سمير جعجع في تقربه من ميشال عون الى درجة توقيع «إعلان نيات» يبقي خيوطاً غير مرئية بين الفريقين، كان جواب هؤلاء غير المتحفظ: فتّش عن وراثة «التيار الوطني الحر».
لا يبدي هؤلاء أي خشية من التواصل الاستثنائي بين الخصمين اللدودين، ولا تنتابهم نوبات غضب أو حتى شّك من إمكانية استثمار رحلات الذهاب والإياب على طريق معراب – الرابية في غير محلها، المعروف بالنسبة لهم. لا بل يخففون من ثقل هذا الانقلاب بالتأكيد أنّ كل ما يفعله حليفهم هو العمل على ردم هوة سنوات النزاع الدموي مع الجنرال العتيق، وكسر جبل الجليد الذي يبعده عن العونيين، لفتح صفحة جديدة.
وبالسرعة ذاتها يُلحق هؤلاء كلامهم بتأكيد ثان: ولكن هل سبق لعوني أن صار قواتياً؟ لم تحصل في السابق ولن يُلقى القبض مستقبلاً على أحد منهم في جرم الانتقال المشهود من ضفة الى أخرى!
بإمكانهم تعداد الكثير من المبررات والأسباب التي ستدفع بجهود سمير جعجع الى سلّة المهملات وتحول دون دخوله شريكاً في «التركة البرتقالية».
هكذا، يبعد «الزرق» كل الفرضيات الانقلابية التي تحذر من ابتعاد سمير جعجع عن محور «14 آذار» للتموضع في خطّ وسطي يقيه شرّ التقلبات الاقليمية التي بدأت تلوح في الأفق. كما يسقطون كل احتمال له علاقة بالاستحقاق الرئاسي ويمكن أن يؤدي في نهاية المشاورات الثنائية الى وضع جعجع اسم غريمه التاريخي في الصندوقة الخشبية، مع أنهم لم يبلعوا لا انحرافته على طريق مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» ولا إصراره على الترشح ولا مبادرته باتجاه عون.
ولكنهم يؤكدون على مسامع سائليهم: جعجع باق هنا.
غير أنّ هذا البصم على موقع حليف السنوات العشر، لا يحظى بمصادقة عارفي قائد «القوات» القدامى. بمقدور هؤلاء أن يبحروا في ذهن الرجل لاستخراج ما في بواطنه من خبايا لا يمكن لكثر وضع يدهم عليها، من منطلق خبرتهم في خبز الرجل وعجنه.
يقولون إنّ التطورات الحاصلة في المنطقة، وتحديداً سقوط جدار الفصل بين طهران والعالم الغربي، وواشنطن في طليعته، هي واحد من محفزات خروج جعجع من معرابه ليقصد الرابية. هو لا يطمع فقط بفتات من يدورون بفلك العونيين، قد يبحثون في المستقبل عن مرجعية سياسية يستظلون حمايتها، ولكنه أيضاً يحسب حساب التغييرات الاقليمية المرتقبة.
بتقدير هؤلاء، فإنّ هناك الكثير من المؤشرات التي تشي بأنّ الرجل يحاول تحصين نفسه من غدرات الزمن فيما لو حصلت، وهو لذلك يترك خطاً للرجعة مع الجنرال، لا بل يذهب أبعد من ذلك. اذ تتحدث المعلومات عن رسائل تودد كثيرة أرسلها سمير جعجع باتجاه الضاحية عبر أصدقاء له، لكنها كانت ترد دوماً مع الشكر.
كل ذلك انطلاقاً من خشية تتسلل الى أفكاره وتحذره من الأيام القادمة. وهو يقول في مجالسه الضيقة مع بعض الكوادر اللصيقة كلاماً من نوع ضرورة الأخذ بالاعتبار كل الاحتمالات في تطورات المنطقة وما يمكن للاتفاق النووي أن ينتجه على الصعيد المحلي.
ولهذا أيضاً، يرى عارفوه أنّه كان يخطو خطواته بتأنّ وهو يتعامل مع ميشال عون على طريقة توقع ما يمكن أن تكون ردة فعله، على عكس اعتقاد الجنرال الذي يظنّ أنّه يتصرف زئبقياً بحيث يستحيل تقدير خطواته التالية.
وفق هؤلاء، فإنّ جعجع يحيط نفسه بأشخاص يعرفون الجنرال جيداً، ويمكنهم أن يضعوا على الورقة كل السيناريوهات المتوقعة من ميشال عون، والتعامل معها على هذا الأساس.
ولهذا فإن «حكيم معراب» سيسعى الى استخدام كل الأوراق التي سيتيحها التعاون الثنائي بين الخصمين بعد بناء جسر «النيات». حتى استفتاء الرأي الذي يتردد أن الرجل يخشى من استثماره ضده لأن نتيجته معروفة سلفاً، وهي ستتوج العماد عون زعيماً أول، سيعرف كيف ينجو من لغمه، لتصويب المسألة على أنها انتصار له، وتكريس لزعامته كرقم 2.
وعلى خط مواز، كان سمير جعجع يحاول الانتقال بخطابه من الموقع السيادي، حيث وقف في الصفوف الأولية لقوى «14 آذار» طوال السنوات الماضية، لا بل كان في كثير من المرات، مكلفاً أو يكلف نفسه بمهمة مواجهة الخصوم، سواء «حزب الله» أو ميشال عون، الى الخطاب المسيحي، متخلياً عن دور التصدي لـ «الراجمات البرتقالية».
هذا التحوّل، وفي هذا التوقيت بالذات، ليس بريئاً، لا بل ينمّ عن حسابات جدية ترتسم في رأس الرجل مذ أن بات يشعر أن رجليه تقفان على أرض ثابتة، وبعدما تمكن من تأمين أرضية تنظيمية متماسكة تساعده على توسيع رقعة نفوذه، قرر الخروج من حضن «14 آذار» التي كانت تؤمن له الحماية السياسية والواجهة البراقة لموقعه، الى الخانة المسيحية.
هكذا يتجاوز جعجع معادلة اليوم، ويتطلع الى الغد. يعرف جيداً أنّ ميشال عون لن يكون خصمه مع مرور الوقت. لا بل يمكنه أن يكون المعجن الذي قد يغرف منه. في المقابل، سامي الجميل هو خصم الأيام المقبلة. بينهما طبق مشترك ومنافسة على المنخار. فحزب «الكتائب» العتيق يملك أكثر من 300 قسم كتائبي بحجرها وبشرها. هيكلية قائمة بحد ذاتها وقد تشكل خطراً على حضوره الحزبي ونفوذه السياسي اذا نجح القيمون عليها في تمددهم.
لهذا يلعب الرجل لعبة الزمن. حاول أن يحني رأسه لعاصفة التغييرات وأن يسقط الحواجز التي تقيده داخل المربع المسيحي. خرج من السجن مكبلاً بالاتهامات، فكان ملجأ «14 آذار» أكثر من ضروري. وبالأمس منحه ميشال عون صكّ البراءة، لينطلق في الفضاء المسيحي طليق الجناحين.
هذه اللوحة بدت متناغمة مع نفسها، الى حين قررت السعودية أن تغيّر كل المشهد. في توقيت يماشي أجندتها، لبّت طلب جعجع بالزيارة، فكان له ما لم يحصل لأي زعيم ماروني لا يتمتع بصفة رسمية. لقاء استثنائي جمع الملك سلمان بضيفه اللبناني، يكاد يتفوق في صورته، على مضمون المحادثات.
بدا جلياً أنّ القيادة السعودية بدأت رحلة التصدي لمفاعيل الاتفاق النووي وهي تعدّ عدّة الحلفاء للقيام بمهمة المواجهة المطلوبة. ما يعني بشكل أو بآخر قطع الطريق أمام احتمال إعادة إنعاش الخطوط بين الرابية وبيت الوسط من جهة، ولربما تخفيف الاندفاعة القواتية باتجاه مقر القيادة العونية…
ولهذا سارع ملحم الرياشي الى طرق أبواب الرابية لوضع جنرالها في أجواء الزيارة، والتي يُفهم منها أنّ عقارب الماضي لن تعود الى الوراء، وأنّ الحفاوة الملكية لن تؤثر على مسيرة التقارب. فكيف سيتمكن جعجع من إمساك العصا من الوسط؟