تتعدد الدروس في «مدرسة» القوات اللبنانية: في الصف المخصص لصقل تقشف المناضلين، يتعلّمون عدم المبالاة بـ«تنسك» رئيسهم سمير جعجع في القصر الأكبر في لبنان. في الصف المخصص لمكافحة الإقطاع، يتعلّمون تجاهل تحالف «الحكيم» مع آل كيروز وطوق في بشري، وحرب في البترون، ومعوض ودويهي في زغرتا، وسعيد في جبيل، والجميّل والمر في المتن وكل أعداء الأمس الآخرين. وفي درس الوطنية كتابان: قديم بالعبرية وآخر جديد باللهجة الخليجية.
أما الوفاء للمناضلين واحترام تضحياتهم، فمادة رئيسية في المدارس الحزبية عموماً، لا لدى القوات فقط. فيما الدرس الأهم إقناع الأجيال الجديدة بأهمية إحلال القوات نفسها محل الجيش في الدفاع عن حرية لبنان وسيادته، وبفضل مقاتليها ــــ خصوصاً في إهدن والصفرا والكرنتينا وغيرها ــــ في بقاء لبنان التعددي كما يعرفونه اليوم.
دولة مسيحية
لوقف التماهي مع «الدويلة الشيعية»
لا يحق للتلامذة السؤال عمّا حال سابقاً دون قيام الجيش بواجبه في حماية لبنان، خصوصاً أن كميل شمعون وبيار الجميّل، الآباء المؤسسين لميليشيا بشير الجميّل، كانا حاضرين في السلطة الآمرة لهذا الجيش. كذلك لا يحق لهم السؤال عمّن منع الجيش في عرسال وجرودها، ثم في جرود بريتال، من التصدي لمحاولة التكفيريين اختراق حدود بلدهم. ولا يمكن سؤال المدرسين عن سرّ هذا الإيمان المفاجئ بقدرة الجيش على حماية الحدود، رغم أنه الابن البار لاتفاقية التعاون والأخوة والتنسيق التي يرفضونها، وربيب الرئيس إميل لحود الذي يمقتونه. فيما عليهم، في المقابل، أن يستنفروا ضد «إيهام» البعض أنفسهم والآخرين بأن حزب الله يدافع عن لبنان التعددي عند الحدود الشرقية وخلفها.
منذ أشهر، تتجاهل القوات كل الشماتة بالخيارات «التقدمية» لرئيسها، وتواصل سعيها العبثي لإقناع نفسها بأن حزب الله و«داعش» وجهان لتكفير واحد. وتتكل على استطلاعات خاصة تظهر تفوقها لترفع معنويات قائدها، مفترضة أن كل تعقيب لـ«الحكيم» على كل خطاب للسيد حسن نصر الله، يدرّ عليه شعبية. إلا أن الأمور باتت، اليوم، أكثر تعقيداً للقوات، وهي ترى وفود حزب الله تجول على «لجان الدفاع» في قرى شمالية وبقاعية، دفعت مراراً ثمن استخفاف القيادات المسيحية وسوء تقديرها. فبدل أن يهرع هؤلاء لطلب النجدة من الكتائب والقوات، رآهم جعجع، من القبيات إلى القاع، يتمسّكون بالبقاء في أرضهم هذه المرة، معوّلين على الله وحزبه وأنفسهم.
في المساحة الأقرب إلى جعجع، يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات: أولاً، تسليم البيئات الحاضنة للقوات بأن حزب الله هو الحاجز الفعليّ الذي يحول دون ابتلاع «داعش» للبنان. ثانياً، لم تفلح تصريحات رئيس القوات التطمينية في تهدئة الاندفاعة المسيحية للتسلح، والتنسيق الإلزامي لهذه الغاية مع حزب الله، في ظل الرقابة الشديدة على سوق السلاح الفلسطيني وتصدير مناطق أخرى كل مخزونها إلى سوريا. ثالثاً، تنامي ظواهر قدامى القوات، وفشل جعجع في محاصرتها، سواء باتفاقيات جانبية، أو عبر الدعاوى القضائية، أو بواسطة شراء سلاحها منها.
تقدّم كوباني للقواتيين نموذجاً عمّا ستكون عليه أوضاع أبعد القرى المسيحية إن حذا المسيحيون حذو الأكراد في الاستزلام للغرب. بناءً عليه، انتقل جعجع من اللامبالاة إلى المواجهة. مع العلم أن المدرسة القواتية تزرع في رؤوس التلامذة المبتدئين حلم «الدولة المسيحية» الذي يمكن أن يجد للمرة الأولى نفسه في خرائط بعض المشاريع الطارئة. لذلك، استعاد القواتيون، فجأة، غيرتهم على أمن مناطقهم، في ظل تقارير استخباراتية تلحظ تنظيماً متزايداً للحماسة القواتية المستجدة. وفي حسابات جعجع أن استنهاض حلم الكانتون هو الحل الوحيد لوقف التماهي المسيحي، أمنياً، مع «الدويلة الشيعية».
عام 1994، كان جعجع مقتنعاً بوجوب عدم مهادنة السوريين، حتى لو اضطره الأمر إلى التحصن مع مجموعة صغيرة في إحدى التلال ريثما تقرر الولايات المتحدة تعديل موازين القوى. أيدته في ذلك قلة من رفاقه، فيما حثته الأكثرية على الدخول في اللعبة، ما دام قبل اتفاق الطائف بما يحمله من تعرية لصلاحيات الرئاسة الأولى وتسليم بالوصاية السورية. ورأى هذا الفريق في تقديم جعجع العزاء للقيادة السورية بوفاة باسل الأسد فرصة كبيرة. إلا أن «الحكيم» فاجأ هؤلاء بذهابه إلى سوريا ليعلم قيادتها بأنه ضدها، فبدأوا يعدّون الدقائق لسجنه. مشكلة الرجل الرئيسية عدم تعلمه من أخطائه: بدل أن يبقى في حصنه، متمسّكاً بمواقفه المبدئية ريثما تتضح معالم المشاريع الدولية والتسويات، ها هو يندفع مجدداً لإعلام خصومه في عزّ قوتهم المحلية والإقليمية أنه ضدهم وسيواجههم، مفترضاً، كعادته، أنه يكتب التاريخ.