«حربٌ كبرى» تدور في حلب، لا بل أكثر من كبرى، ذلك أنّ نتائج ما يحدث سيؤثّر في مستقبل خريطة النفوذ في الشرق الأوسط، ولا مبالغة في القول إنّ هذه المعركة سترسم الواقع الجيوسياسي الجديد والذي سيستمرّ لعقود وسيشمل لبنان بكلّ تأكيد.
يوم نجحت تركيا من خلال مجموعات المعارضة في السيطرة على أكثر من 60 في المئة من مدينة حلب، اعتبر كثيرون أنّ العدّ العكسي لسقوط دمشق بدأ فعلياً.
من جهته، استمات النظام السوري في الحفاظ على الثلث المتبقّي من المدينة وهو نجح في ذلك. ومع انخراط «حزب الله» مباشرة في الحرب الدائرة في سوريا الى جانب وحدات عسكرية إيرانية ودعم إيراني مفتوح، بدأ ميزان القوى يتبدّل ولكن ببطء.
وفيما كان «حزب الله» يُركّز على «تنظيف» المنطقة المتاخمة للحدود اللبنانية كأولويّة مطلقة الى جانب الدفاع عن دمشق، كان الرئيس السوري بشار الأسد يُلحّ على أولوية استرداد حلب بعد النجاح في السيطرة على معظم أنحاء محافظة حمص والتي تتمتّع بأهمية جغرافية فائقة.
ولأجل ذلك، عملت إيران على شقّ أوتوستراد جديد يربط حمص بحلب ويكون متنفّساً للمنطقة التي تقع تحت سلطة الجيش النظامي السوري. يومها اغتيل الجنرال الإيراني الذي كان يُشرف على شقّ الأوتوستراد. وفُهم من رسالة الاغتيال معارضة خارجية لاستعادة حلب لكنّ المشروع استُكمل فيما بعد.
وفي العام 2014، وتحديداً بعد إنجاز التقدّم العسكري المطلوب في معظم المنطقة السورية المحيطة بالحدود اللبنانية، وضعت القيادة السورية بالتفاهم مع «حزب الله» والقيادة العسكرية الإيرانية خطة للسيطرة على حلب بكاملها. لكنّ الحملة العسكرية فشلت ولم تُحرز سوى بعض النجاحات المحدودة في ريف حلب.
لكن مع الدخول الروسي تغيَّرت قواعد اللعبة. صحيح أنّه خلال المرحلة الأولى من التدخل لم يتحقّق الكثير، إلّا أنه بعد الزيارة التاريخية للرئيس فلاديمير بوتين الى طهران، تمّ رسم طريق جديد لروسيا الى البحر الأبيض المتوسط، يبدأ في بحر قزوين ويمرّ بإيران فالعراق فسوريا.
ورُفِعَ مستوى التدخل العسكري ليتمّ إنشاء غرفة عمليات موحّدة يترأسها نائب رئيس الأركان الروسي، وتأتمر بها كلّ المجموعات العسكرية، ومعها بدَت روسيا مصمّمة على إنهاء واقع حلب وفرض أمر واقع جديد.
ليس ميزان القوى الداخلي هو المقصود فقط بل أبعد. ففيما كان معروفاً سعي تركيا إلى إنشاء منطقة نفوذ لها من خلال فرض حظر للطيران وهي المنطقة التي تعتبرها موسكو ممرّاً يصلها بالبحر الابيض المتوسط، كانت مشكلة أكراد سوريا والمعروف عنهم تاريخياً تناغمهم مع السياسة الأميركية، وكان الانطباع السائد أنّ واشنطن التي تستفيد من «الخدمات الحربية» للمقاتلين الاكراد ستعمد لاحقاً الى بيعهم لتركيا وإرضائها بذلك كتعويض لها عن الملف السوري.
لكنّ روسيا كان لها رأيٌ مختلف حيث انفتحت على الأكراد وأمّنت لهم العتاد العسكري المطلوب مقابل مساندتهم في القتال في حلب. وبدا معه أنّ أيّ صفقة تطاول أكراد سوريا باتت صعبة وهو ما يشكل نقطة رعب للسلطات التركية. لذلك رفعت تركيا صوتها ملوِّحة بالتدخل البرّي الى جانب السعودية التي باتت تخشى خسارة كاملة في سوريا.
لكنّ التلويح بالتدخل البرّي بقيَ في إطار الكلام، خصوصا أنّ الجيش التركي يستخدم مدفعيّته فقط وهو ما يعني عدم جدّية قرار التحرّك البرّي. فروسيا جهزت سلفاً منظومة الصواريخ «أس 400» الأكثر تطوّراً في العالم الى جانب طائرات «سوخوي 35» وغواصات في البحر… الرسالة واضحة.
وجاء كلام الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في إطار التحدي في هذا المجال، والأهمّ أنه تحدث عن إنهاء عسكري كامل في سوريا ورفضه تقاسم السلطة لاحقاً، ولو اعتبر ذلك من باب رفض التقسيم. هو يقول إنّ القرار اتُخذ ولو أنه سيحتاج لبعض الوقت. ومن هنا أهمية معركة حلب التي ستعني وضع العراق أيضاً أمام واقع جديد، وبطبيعة الحال تأثيرها في لبنان.
وهناك مَن يضع عودة الرئيس سعد الحريري في إطار هذه الصورة العريضة. فالسعودية التي باتت تخشى الخروج الكامل من سوريا والتي ردّ عليها السيد نصرالله ملوِّحاً بالحرب الشاملة، شعرت أنّ الخطر بات يطاول نفوذها في لبنان من خلال التفكّك الذي بات يصيب فريقها في مقابل حيوية أفضل للفريق المتحالف مع إيران.
الذين زاروا السيعودية خلال الأيام الماضية سمعوا كلاماً سعودياً عالي السقف في إطار المواجهة مع إيران، حيث إنّ هذه المواجهة تشمل الساحة اللبنانية أيضاً.
وإذا كان مفهوماً أن تعمل السعودية على إعادة ضخّ الحيوية في شرايين فريقها السياسي، وأن تعزل تناقضاتها الداخلية عن الساحة اللبنانية، وأن تفتح أبواب المساعدات المطلوبة للرئيس سعد الحريري لكي يتمّم مهمته، وأن يُدشّن ذلك بخطاب يهاجم فيه السياسة الإيرانية ويمتدح موقفَ السعودية، إلّا أنه ما لم يكن مفهوماً هو الاشتباك الذي حصل مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع وإدراجه في إطار المناكفات الداخلية.
ولم يكن مفهوماً أكثر ردة الفعل الناعمة جداً لجعجع والتبرير غير المقنع الذي ساقه بعد زيارة الحريري لمعراب. وفي الحالين بدا الحريري واثقاً من نفسه وممّا قاله وليس أبداً متردّداً يُحاول «تمسيح» زلّة لسان حصلت.
والانطباع الجدي الذي كوّنه ديبلوماسيون وخبراء أنّ الحريري كان يحمل رسالة سعودية «جافة» وأنّ جعجع فهمها جيداً لذلك تلقفها بمرونة.
فيوم تحدّثت النائب ستريدا جعجع من مجلس النواب بعباراتٍ مفاجئة، لا بل صادمة، تجاه «حزب الله» حول النضال نفسه ولون الدم نفسه الذي أُهرق، بدأت التساؤلات عن المقصود بذلك. إذ إنّ الكلام كان بصوتها ولكنّه كان بكلّ تأكيد بقلم زوجها.
وما بين التفسيرات الكثيرة التي أُعطيت والتي دارت في إطار ترشح جعجع إلى الرئاسة، وليس أبعد، بقيَ «حزب الله» صامتاً ولم يجب على الرسالة.
ثمّ جاءت دعوة الرياض لجعجع وفق برنامج كبير افتُتح بلقاء مع الملك. لكنّ الصورة في بيروت كانت بدأت تتبدّل، فالاتفاق النووي تمّ توقيعه وروسيا أضحت تقاتل في سوريا بلا اعتراض أميركي. ولا حاجة للاستنتاج أنّ ميزان الربح بات يميل بقوة في اتجاه إيران.
في هذا الوقت تواصل جعجع مع رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية من خلال معاونيهما وطلب منه مساعدته للتواصل مع «حزب الله»، ما أكّد من دون تردّد أنّ كلام السيدة جعجع في المجلس النيابي كان يؤشر الى ما هو أبعد من الترشح لرئاسة الجمهورية.
هذا «السر» الذي ردَّ عليه جعجع بالقول إنّ «المجالس بالأمانات» وصل الى مسامع «حزب الله» وهو يلقى في هذه المرحلة تشجيعاً من النائب ميشال عون لقيادة الحزب بالانفتاح على جعجع.
وحينما رشّح جعجع عون، قرأ القريبون من المملكة هذه الخطوة بمثابة تكريس الإخلال بالتوازن الإقليمي على الساحة اللبنانية، ولم يقرأها هؤلاء في الإطار اللبناني الداخلي، بل في إطار التوازنات الاقليمية. وردّد هؤلاء أنّ الترجمة الاقليمية لترشيح فرنجية تختلف كلياً عن ترشيح عون. وبدا لهؤلاء أنّ جعجع دخل في المحظور ولم تعد تنفع مسألة اللعب على التناقضات الداخلية في السعودية.
وجاء تعليق وزير الخارجية القطري بعد ساعات على خطوة ترشيح عون ليثير الريبة، ومن ثمّ تبرير جعجع له ليؤكّد أنّ ثمّة خيوطاً إقليمية تربط بالحدث «المعرابي»، وهو ما يعني ضمناً أنّ «اتفاق الطائف» أصبح في خطر وسط أجواء داخلية مهيَّأة لذلك.
ومعه لم «يسقط» الحريري «بشطحة» انفعالية كما أشيع، ولم يُخدع جعجع نفسه بهذا التفسير بل فهم جيداً خلفياته، الى درجة أنّ البعض يتوقع بقاء جعجع على خياره الرئاسي، ولكن بحماسة أقل واستمرار تنسيقه مع عون، ولكن بحدود الانتخابات البلدية في حال حصلت في موعدها.
أما الانتخابات النيابية فمسألة أخرى وهي تخضع لحسابات سياسية بحتة لها علاقة بالتوازنات الإقليمية في لبنان لا بنزاع الطوائف والاحجام الداخلية كما تروّج الدعاية الإعلامية والسجال السياسي.