«لا توحش النفس بخوف الظنون واغنم من الحاضر أمن اليقين فقد تساوى في الثرى راحل غدا وماض من ألوف السنين» رباعيات الخيام – أحمد رامي
لست من دعاة تقديس النصوص في كل آن وأوان، فما كان حقيقة مطلقة في يوم ما لا مجال حتى لنقاشها، يأتي زمن لتصبح تلك الحقيقة فيه مجرد رواية مضحكة، يتندّر بها الناس. يعني، كما يقول الفيلسوف مارتن هيدغر، أنّ الحقائق العلمية بذاتها تبقى حقيقة في أوانها، ومرجعية صالحة منطقية للناس، ليبنوا عليها أرضية أفكارهم، ومن ثم ينطلقون منها نحو تفسير الأمور بناءً عليها. فعندما كانت الأرض مسطحة، والشمس قرصاً يتنقل على عربة في السماء، لتختبئ وراء الجبال ليلاً، والخيمياء قاعدة علمية لتحويل المعادن لذهب، وشرائع حمورابي قانوناً… كانت تلك حقائق مطلقة، لكن الأهم هو أنّها تصبح قاعدة فيها الكثير من القداسة، ونسبها كان لكيانات فوق البشر، لأنّها في طيّاتها تحمل الإحساس بالأمان كمرجعية لاجتماع البشر، في ما بينهم، ومع الطبيعة.
الماضي يحمل دائماً دروساً نفهم من خلالها ما هو نافع لتفادي الخطأ، وما هو الطريق إلى هوة الجحيم وكيفية تجنّبه. العاقل يعرف كيف ينتقي من الماضي العِبَر النافعة لتجنّب المخاطر، لكن المصيبة هو أنّ قلّة من الناس يتفهمون التاريخ، وإن فهموا فقد يعتقدون أنّهم أكثر حنكة أو دهاء ممن سبقوهم على درب الخراب، فيعودون بأنفسهم إلى تكرار كل ما أوصل من هم قبلهم إلى الهاوية، لاعتقادهم بأنّهم فهموا. يقول أينشتاين إنّه «من علامات الجنون تكرار مسار معين بتفاصيله وانتظار نتائج مغايرة».
لا بأس، فمن جديد إحتجت لتلك المقدمة للدخول في لبّ الموضوع. والموضوع من جديد هو طرح ولي عهد الجمهورية اللبنانية عقداً وطنياً جديداً، بعد فشل العقد السابق بتأمين الاستقرار الوطني، فأدخلنا في حروب مستمرة منذ تأسيس بدعة الشراكة الوطنية بين زعماء ووجهاء الطوائف، الذين تحوّلوا بين ليلة وضحاها من إقطاعيين إلى رجال دولة وسياسيين.
بكل موضوعية ووضوح، أنا لم أعتقد يوماً أنّ اتفاق الطائف، أو الدستور الذي نتج منه، كان العلاج المثالي لمرض الشعوب اللبنانية المتعايشة قسراً على أرض لبنان الضيّقة، لكنه على الأقل أوصل الحرب الطويلة المدمّرة الدامية إلى ختام، ولو على زغل، وأعطى فرصة، ولو مؤقتة، للناس لكي يفكّروا بكيفية العيش بشكل عادي، وإن لم نعد نعرف ما هو العيش العادي بالضبط. وبالتالي، فإنّ الدستور الذي حاول أن يُرسي توازنات جديدة في السلطة غير المتوازنة في ما سبق، ليس نصاً مقدّساً، وهو، مع أنّه لم يُطبّق بالكامل، وخصوصاً بتلك البنود المتعلقة بإلغاء الطائفية السياسية، لكن ما على المحتجين عليه، أو المتضررين منه، إلّا أن يذهبوا إلى الطريقة الدستورية لتعديله، أي من خلال مجلس النواب، وهم يملكون كتلاً وازنة في البرلمان. إلّا إذا كان البعض من المغامرين الذين رفضوا اتفاق الطائف من يومه، واحد لأنّه لم يأتِ به رئيساً للجمهورية، وآخر لأنّه أخّر حلم الولاية الذي كان قاب قوسين، يريد دفع البلاد إلى حرب جديدة!
لماذا هذا الكلام الآن؟ فقد صرّح رئيس «التيار الوطني الحر»، وولي عهد الرئاسة الأولى، بأنّ تغيير اتفاق الطائف سيكون بالممارسة. واليوم يطرح خيارات أكثر جذرية من خلال مؤتمر وطني، لا يبدو أنّه سيؤدي في نهاية المطاف إلاّ إلى إعادة رسم حدود جغرافية وديموغرافية جديدة للبنان. لقد تراجع في السابق عن المطالبة بتعديل الطائف دستورياً، وذلك لعلمه بأنّ التعديل سيفتح شهية الجميع على تعديلات أخرى تناسبهم، بناء على المعطيات الفعلية على الأرض من عدد وعدة. وبما أنّ موازين القوى هي بوضوح تميل إلى من يملك السلاح في البلد، فإنّ أي تعديل سيكون محكوماً حتماً بما يريده أصحاب السلاح، أي ليس لمصلحة من يتوهم أنّ التعديل سيعيد ماضياً لم يتمكن من إقناع أحد بجودته. في النهاية، فإنّ الاختلاف عندها سيدفع إلى الفراق، خصوصاً عندما ستُطرح المثالثة بدل المناصفة.
تجربة انتزاع رئاسة الجمهورية تحت شعار الرئيس القوي، والفكرة هنا، هي أنّ الشراكة بين الطوائف تكون بالقيادات التي تمثل طوائفها بشكل أكثري في المجلس النيابي، كانت لإعادة التأكيد على أنّ البلد يجب ان يُحكم من زعماء الطوائف. بالطبع، فإنّ هذا الطرح لا يؤدي بالمرّة إلى حكم سوي، لأنّه حسب التجربة ألغى فصل السلطات، وأصبح مجلس الوزراء صورة طبق الأصل عن المجلس النيابي، وحرم بالتالي البلد من وجود معارضة تراقب وتحاسب وتعدّ نفسها لطرح مشروع بديل عند فشل الحكم.
لكن، عندما وصل رئيس الجمهورية تحت شعار هو اخترعه، حاول وضع رئاسة الحكومة تحت عباءته، أي فرض التعديل الموعود بالممارسة على الدستور. ويجب الاعتراف، أنّ هذا المخطط نجح في بداياته، لدرجة جعلت من رئيس الحكومة في موضع الإحراج والاستهداف من قِبل مؤيّديه. ومن بعدها البقية معروفة بعد قرار الاستقالة، فقد تبين أنّ استيعاب قرار رئاسة الحكومة لم يعد ممكناً مع سعد الحريري. من هنا كان القرار بالبحث، أو ربما كان الخيار جاهزاً عند رئيس الجمهورية، عن رئيس لا حيثية ولا قرار ولا وقفة عز عنده، جلّ أحلامه أن يكون رئيساً ولو نظرياً، ليكون السبيل لتعديل الطائف بالممارسة.
هذا اللعب على حافة الهاوية اليوم، المبني على لحظة ضعف تاريخية، لن يكون إلاّ مقدّمة لانفجار كبير عندما تتغيّر الموازين فجأة، ومن يقرأ التاريخ، ويفهمه، يعرف كيف يتجنّب الوقوع من جديد في الهاوية التي سبقه إليها آخرون. السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة البلد اليوم، هو من خلال حكومة مهمّة، تضخ بعض الهواء في رئتيه، إلى حين العودة للبحث في جنس الملائكة، أما الرهان على الخراب لفرض التغيير، فهو رهان خطر وقد ينقلب وبالاً على الساعين إليه. المشكل اليوم أصبح واضحاً، فمن قال في الماضي «لعيون صهري ما تركب حكومة» يقول اليوم «من بعد صهري ما يركب بلد».