لا حاجة للثلث الضامن في حكومة تتشكّل على قاعدة وزراء “لا معنا ولا ضدّنا”، كما قال الرئيس نبيه بري. في الأساس لم يرد في اتفاق الطائف أي نص يحدّد من يحقّ له بهذا الثلث. المسألة تتعلّق فقط بالحديث عن استقالة الحكومة إذا استقال ثلث الوزراء “زائد واحد”، وعن التصويت على القرارات المصيرية الأساسية التي تحتاج إلى الثلثين وعن الحاجة إلى هذا العدد أيضاً حتى تكون جلسات الحكومة شرعية.
الطائف في روحيته جعل السلطة بيد مجلس الوزراء مجتمعاً ولكن على قاعدة أن الإنتهاء من مرحلة الحرب يقتضي التوافق بحيث لا تكون هناك معارك وتصفية حسابات داخل المجلس، ذلك أن الطائف بالتوافق العربي والدولي الذي أحيط به كان أقرب إلى إعلان حياد لبنان. ولكن الطريقة التي طبَّق فيها عهد الوصاية السورية الطائف ليست الطائف إنّما شكّلت انقلاباً عليه. كان يكفي أن تتشكّل الحكومة في دمشق ثم في عنجر وأن تقال من دمشق ومن عنجر. فلم تكن هناك أي أهمية للثلث أو للثلثين. هذا الواقع فرض نفسه على كل الحكومات منذ العام 1991 حتى العام 2005. حتى الحكومات التي ترأسها الرئيس رفيق الحريري لم تكن فيها أي أكثرية سياسية ولم تكن فيها أرقام لأن الجميع كانوا كذلك، والأكثرية دائماً كانت لدمشق وللقرار السوري. لذلك لا يمكن اعتبار أن ما كان يحصل وقتها هو القاعدة.
انكسرت القاعدة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. الأكثرية التي كانت متوفرة في حكومة الرئيس عمر كرامي التي تشكّلت بعد فرض الإعتذار على الرئيس الحريري في تشرين 2004 لم تمنعها من السقوط. استقال رئيسها تحت ضغط الشارع فاستقالت. الأمر نفسه حصل مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2013، ومع حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب في العام 2020 بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب. يمكن القول إن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تشكّلت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وأشرفت على انتخابات العام 2005 كانت من دون أكثرية وأقلية ومعارضة وموالاة.
قبلها لم تكن هناك معارضة داخل الحكومات. كان هناك وزراء مشاكسون يُكلّفون الإعتراض على الرئيس الحريري. بعد تلك الإنتخابات كان انقلاب الأكثرية النيابية لمصلحة قوى 14 آذار وكانت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تحوّلت فيها الأكثرية إلى صف 14 آذار بعد ابتعاد وزراء كانوا محسوبين على الرئيس إميل لحود عنه. تلك الحكومة علّمت “حزب الله” أهمية ما يسمى الثلث الضامن أو الثلث المعطل. على رغم أن خمسة وزراء يمثلون حركة أمل و”حزب الله” استقالوا في 11 تشرين الثاني 2006 وتبعهم وزير لحود الوحيد يعقوب الصراف، إلا أنّ الحكومة بقيت شرعية واستمرّت في ممارسة مسؤولياتها خصوصاً لجهة استكمال عملية إنشاء المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
سميت بتراء أو عرجاء وحوصرت السراي ولكن الحكومة بقيت. عدم التمكن من إسقاطها بالطرق الدستورية حمل “حزب الله” على تنفيذ انقلاب 7 ايار 2008 الذي نتج عنه تسوية الدوحة وانتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وحصول “حزب الله” على الثلث المعطل مع حليفه “التيار الوطني الحر”. ولذلك قيل وقتها أن اتفاق الدوحة شكّل تعديلاً لاتفاق الطائف لأنّه أعطى “حزب الله” سلطة المشاركة في الحكم من الداخل وإسقاط الحكومة إذا أراد. هذا الأمر تكرر بعد انتخابات العام 2009 عندما تمكّنت قوى 14 آذار من الفوز بالأكثرية وشكّل الرئيس سعد الحريري حكومة حصل فيها “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” و”حركة أمل” على الثلث زائد واحد سمّي الوزير الملك على أساس أنه لا ضدّ ولا مع أحد ولكنّه في النتيجة كان مع الطرف الذي استقال.
كانت تلك المرة الوحيدة التي استعمل فيها هذا الثلث باستقالة 11 وزيراً من أصل 30 أسقطوا الحكومة والرئيس سعد الحريري. ولكن على رغم أنّ الحكومة التي أتت بعدها برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي كانت من لون واحد ومن أكثرية واحدة تدور في فلك “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” فإنّ هذه الأكثرية لم تحمها من السقوط بعدما قدّم رئيسها استقالته.
منذ وصل العماد ميشال عون إلى سدّة الرئاسة تحدّث عن حكومة العهد التي يريد تشكيلها. لم يعتبر أن الأولى التي تشكلت بعد انتخابه هي كذلك وفضّل أن ينتظر حتى ما بعد الإنتخابات في أيار 2018. حصلت الإنتخابات ولكن الحكومة التي تشكّلت لم تكن بحجم “حلم” فخامة الرئيس فسقطت باستقالة رئيسها بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين. لم يحمها من السقوط اعتبار أنها حكومة التسوية والأخوة والتعاون والتنسيق بين الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل، الذي كان اشترط الحصول على عدد من الحقائب المحددة والمصنفة، ولكن كل ذلك بدا كأنه رمال بين الأصابع في لعبة الحكم الذي أضاعه العهد بين ليلة وضحاها. حتّى حكومة الرئيس حسان دياب التي كانت من لون واحد وعشرين على عشرين استقالت تحت ضغط عصف انفجار مرفأ بيروت في 4 آب.
بعد ضياع العهد عاد يبحث عن ثلث معطل بدل أن يكون ضامناً لكل الحكومة. يمكن فهم المطالبة بهذا الثلث عندما تكون خارج الحكم وفي المعارضة مثلاً، ولكن لا يمكن فهم التمسك بهذا الأمر عندما تكون في السلطة وتتنازل عن صلاحيات المشاركة في تشكيل الحكومة كلّها، والبحث فقط في عدد الوزراء المسيحيين الذين يمكن أن يكونوا معك. العهد بحاجة إلى حكومة لا إلى ثلث معطل. والحديث عن الموضوع وربطه باحتمال حصول فراغ في رئاسة الجمهورية وبالتالي إعطاء فرصة للوزير باسيل بأن تكون له كلمة معطلة داخل مجلس الوزراء، كأنّه نعي ذاتي للعهد قبل أن تنتهي الولاية. عندما يصبح العهد غير ضامن لنفسه ولدوره لا يمكن أن يشكّل أي ضمانة لا ثلث ضامناً له ولا ثلثين.