Site icon IMLebanon

لعلّ الذكرى تنفع ذوي الألباب

 

على مدى الأيام الماضية، وخصوصاً بعد خطاب سعد الحريري في ذكرى استشهاد رفيق الحريري، ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة وتغريدات شديدة الإسفاف، فيها تحريض تافه لكنه استفزازي، وكأنّ هناك حملة مبرمجة فيها «أوركسترا» مُحضّرة لدفع الطرف الآخر، أي المسلمين، الى الردّ بالمثل. معظم هؤلاء العابثين التافهين معروفين، وهم ناشطون في «التيار الوطني الحر»، ومع ذلك لم نسمع من المسؤولين أي تنصل أو إدانة. كذلك الأمر، فقد غابت القوى الأخرى عن السمع، كما غابت المرجعيات الدينية. المؤكّد أيضاً هو أنّ إثارة النعرات بهذا الشكل يطاولها القانون، ولم تتحرّك على رغم ذلك أي من السلطات القضائية لردع هذا المسلسل الإجرامي.

في ما يلي مقاطع من كتاب «عواصف في ذاكرة» غير المنشور، أردت تذكير العابثين بالواقع لعلّ الذكرى تنفع ذوي الألباب.

 

48 – أبولو

إنتقل الجدل حول الهبوط على القمر سنة 1969 إلى المدارس، حيث الإنقسام كان واضحاً بين التلامذة حسب أسمائهم!

 

من كان إسمه أحمد أو محمود أو عمر مثلاً، كان يؤيّد العمل الفدائي انطلاقاً من لبنان، ويعتبر مسألة أبولو نوعاً من المؤامرة. أما من كان إسمه طوني أو جورج أو ضومط، فقد كان ضدّ العمل الفدائي، ويعتبر إنجاز أبولو مسيحياً. الإشتباه كان يقع مع أصحاب الأسماء المحايدة مثل ربيع أو جميل أو سليم، خصوصاً إن كانت أسماء عائلاتهم ملتبسة أيضاً. يصبح الإستدلال عندها مبنياً على مكان السكن أو إسم القرية، فإن كان من بشرّي مثلاً فهو ضدّ المقاومة، وإن كان من سير الضنية فهو على الأرجح معها. كان الجدل مضبوطاً بصرامة بعصا البونا بطرس، ولم يصل وقتها إلى مرحلة الصدام إلّا نادراً، والعقاب كان كالمعتاد بالجلد على راحة اليد.

 

52 – المخيم الكشفي

كان عدم ترقية محمد إلى رتبة قائد فوج قد أثار ضجةً واسعة في أوساطنا. كان القائد المولود مسلماً هو الأجدر بالقيادة في فوج مدرسة الفرير، وكان متفوقاً في كل الأمور الكشفية وبلا منافس، لكن ترقيته جُمّدت لكون إسمه ثقيلاً على السمع؟ هذا مع أنّه كان يحضر القداس ويتناول القربان بلا حرج. فتحت هذ القضية باب النقاش حول جدوى وجود مسلمين في كشافة لبنان طالما أنّ الجمعية تمارس التمييز الطائفي…

 

مخيمنا الكشفي الصيفي عام 1973 كان في قرية «الديمان»، وفيها المقر الصيفي للبطريركية المارونية. كان الوعي الطائفي قد بدأ يطلّ بقرونه في شكل خطير خلال تلك السنة في لبنان. أذكر أنّ الإحتفالات الدينية عند المسلمين ومنها عيد المولد النبوي، بدأت تأخذ طابعاً مضخماً نسبة الى السنوات السابقة. ظهر المسلحون في شكل سافر في الطرق، وحصل إطلاق نار متكرّر في الهواء احتفالاً بالعيد، كما أُشعلت الإطارات في معظم أحياء طرابلس.

كنا نشعر بوضوح أنّ إعلان التحدّي للسلطة من قِبل المسلمين أصبح أكبر وأخطر من أي وقت مضى. كنت أسمع التعابير الحادّة للإشارة إلى الطوائف الأخرى، وفي الوقت نفسه بدأت أسمع عن انتسابات واسعة في الميليشيات المسيحية، وعن تدريبات عسكرية للشبان المسيحيين برعاية ضباط من الجيش اللبناني.

 

إنتقل هذا الجدل إلى مخيمنا الكشفي، حيث كان عدد المسلمين يعادل عدد المسيحيين. سرى نوع من التململ في أوساط بعض المسلمين حول الشعائر المسيحية والصلوات والأغاني التي تذكر المسيح، وأعلن البعض رفض المشاركة فيها لأنّه مخالف لعقيدتهم الدينية، وذلك للمرة الاولى في تاريخ فوجنا الكشفي.

 

بعد حوار حاد مع المرشد الروحي الأب «سيزار» وقادة آخرين، اقترح المرشد أن يكون للمسلمين الحق بعدم المشاركة في الصلاة التي لا تعجبهم، وأن يقيموا هم صلاتهم إن أرادوا، بعد تخصيص موقع خاص لهم كمصلّى ضمن المخيم. أصيب الجميع بالحيرة عندما رفضت أنا الفكرة بمجملها، مؤكّداً أنّ ذلك سيؤدي إلى مزيد من التفرقة بين الكشافة على أساس طائفي!

 

77 – درب الآلام

كان الثالث عشر من نيسان 1975 يوم أحد، أي نهار عطلة، وكان من المُفترض أن يكون ذلك اليوم مثل أي يوم من أيام بداية فصل الربيع، وكان جميعنا غافلاً عن الآتي. كانت أسراب السنونو تعود لتجتاح السماء الزرقاء ورائحة زهر الليمون تتسلل بهدوء لتلطف روائح المجارير التي فجّرها انسداد «غير متوقع» في مفصل ما من شبكة الصرف الصحي المتهالكة. حسبما أذكر، هطلت زخّات من المطر من بضع غيمات عابرة أتت لتودع الموسم، وعلى الرغم من أنّ مؤشرات التوتر كانت عالية إلى مستوى الخطر الداهم، لم يتوقع أحد كارثة بهذا الحجم.

 

الساعة الاولى بعد الظهر أصبح النبأ على كل لسان: «الكتائب ارتكبت مجزرة بحق مجموعة من الفلسطينيين الأبرياء عند مرورهم في بوسطة عبر منطقة عين الرمانة».

 

خرجت الأمور عن قدرة الساسة التقليديين على معالجة الأمور على الطريقة اللبنانية المبنية على التسويات. فشل رئيس الحكومة رشيد الصلح مساء ذلك اليوم في إقناع بيار الجميل بتسليم مرتكبي المجزرة بعد أن تحجج الأخير بأنّه لا يعرفهم، وأنّ «الجمهور» ردّ في شكل عفوي على محاولة اغتيال تعرض لها هو نفسه عند خروجه من الكنيسة التي شارك في تدشينها في قلب عين الرمانة حيث قُتل مرافقه.

 

انطلقت أعمال عنف متفرقة حول مخيمي «تل الزعتر» و»جسر الباشا» الواقعين في عمق المناطق ذات الغالبية المسيحية، كما حصلت اشتباكات بين الشياح وعين الرمانة، وقُدّر عدد القتلى ببضعة مئات في الأيام القليلة التي تلت المجزرة.

 

78 – إفتتاح موسم صيد البشر

في الثامن عشر من نيسان، ابتدأ عهد القنص العشوائي بين المناطق، فشُلّت الحركة في الشوارع، وسيطر الذعر على المارة بعد سقوط العشرات من عابري السبيل ضحايا لرصاص مجهول الهوية.

 

«شريف الأخوي» كان مذيعاً في إذاعة لبنان، وأصبح منذ ذلك اليوم المرشد الوحيد للمواطنين لكي يتجنّبوا رصاص القنّاصة الذين انتشروا في أوكار في الأبنية المشرفة على المناطق «المعادية». لكن، وعلى الرغم من كل إرشادات الأخوي ونداءاته «لإحياء ضمائر القناصة» لكي يتوقفوا عن: «قتل الأبرياء، فبينهم قد يكون أخاً وأباً وربما يكون قريباً للقناص نفسه»، فقد كانت لائحة ضحاياهم تكبر بسرعة هائلة، وكثيراً ما سقط مسيحيون برصاص انطلق من مناطق مسيحية، كما سقط مسلمون برصاص من مناطق إسلامية.

 

في بعض الأحيان، كان يتكوّم الأب فوق إبنه الجريح وهو يحاول سحبه من مرمى القناص، وفي أحيان أخرى كانت الضحايا تنزف وتستغيث، دون أن يجروء أحد على الإقتراب منها، بعد أن تبيّن أنّ بعض القناصة المحترفين كانوا يتقصدون تحويل الطريدة الأولى إلى فخ بإصابتها برصاصة غير قاتلة، ليستدرجوا بها أصحاب النخوة من المسعفين.

 

ذكرت كل هذا حتى لا يستهون الألباب إحراق البلد من أجل ولد.